08 Feb
08Feb

يوم بنى العصفور عشّاً من حديد علمتُ أن الأرض لم تعد لنا، هل سبق لك أن رأيت عصفوراً يسكنُ في كومة أسلاكٍ حديديّة بدل القشّ الذي اعتاد بناءه؟؟

نعم رأيت أنا.. كان القشّ كافياً في أرضٍ لم تعتد هبوب الريّاح القويّة.. لكن في زمن الحروب التي تحرّك العواصف يصبح الأمر ضرباً من ضروب الجنون، أو لنقل محالٌ لك أن تسكن في أنبوب مهجور تحرّك السيل نحوه مباغتةً.

حتى البرد وموجات الصقيع أصبحت أقوى، كأنها تأمرت لتجعل الجميع يفكر بالهروب أو الرحيل، حتى صديقتي التي كانت متمسكةً بالأرض رحلت على قارب الموت الذي وعدها بأرضٍ لا تقتلع الجذور وترميها في سلال التخوين.

حتى الأغنيات لم تعد موجهة "بحبك يا لبنان يا وطني بحبك بجبالك بسهولك بأرضك بحبك"، اسمع أميّ تغنيها دائماً، سألتها ذات مرّة "ليش بتغني للبنان" جاوبت وهي تكمل جلي الصحون " بحسّا لسوريا مو ضروري غنّيا للبنان"، جواب أمي البسيطة رمى جميع ما جمعت من ثقافة في الظلام.

أصبحت أفكرّ بمنطق أميّ الخالي من التعقيد، سأفعل ما يحلو لي دون تبرير.

عدت لأفكر مرةً أخرى، يوم بنى العصفور عشاً من حديد، علمت أن الأرض بحاجتنا، لا تبرر تعلقك بالأرض لأحد، سيجده من سيسافر أمراً مثالياً وسيجده الباقون غير مجدٍ في غياب الخبز مثلاً.

فالتبرير والأخطاء المتراكمة ما هي إلاّ نتيجة لرياحٍ تراكمت خلف بابٍ ما لتصبح عاصفةً قد تقتلع كلّ ما في طريقها.. كبابٍ في مشهدٍ لا يغيب عن بالي  من أحد الأفلام الرومنسية الحالمة التي يتزوج في نهايتها الأبطال والجميع يجد عملاً ويحقق حلمه ويعيش بسعادة، لا يغيب أحد مشاهده عن مرارةٍ كدت أختنق بها.

مشهدٌ لحافلةٍ تُفتح أبوابها الخلفية فجأة لتظهر فرقةً موسيقية تعزف "الجاز" ويبدأ الجميع بالرقص..

ضحك جميع من في صالة السينما عند ظهور الفرقة وبِدء العزف لكمية السعادة المنبعثة من الشاشة، إلاّ فمي بقي مغلقاً ..كان باب الحافة الخلفيّ شبيهاً جداً بأحد الصور لمجموعةٍ من الناس ماتوا اختناقاً وكذلك عندما فُتح باب الحافلة ظهر مجموعةٌ من الناس ..ربما بعضهم كان يحلم ب"الجاز"، لكنّ الوقت فاته.

مقارنة القصص ببعضها كفيلةً لإعادة تلوين ما رأيته كامل حياتك بالأبيض والأسود.. حتى التفاصيل تشترك بجانبٍ معين مخفيّ من زاوية ما.

و بعض القصص  تعطيك انطباعاً بما يحدث دون أن تحتاج للتفاصيل، كقصةٍ تبدأ بعد أن تنطفئ أضواء شارعٍ ما  "شارعٍ الذي لا أنوار فيه أصلاً "، وبعد أن تنطفئ أضواءه الوهمية يخرج كل السواد من نافذة من كانت لهم الشمس رمزاً للتعب.. مثل الذين  يُخيّل إليهم أن للشارع أضواءً كما الأفلام التي شاهدها أحدهم جميعها من مكتبة والده الذي عاشر قذارات الحرب العالمية الثانية...

وللصدفة كانت جميع الأفلام التي شاهدها عن الحروب وأهوالها... فالحب لم يعرف طريقه إلى السينما في ذروة الموت.. إلاّ في ما ندر من مشاهد قليلة..


 السواد الذي يخرج من نافذته كل ليلة، هو ما تجمعه عيناه خلال النهار، ففي الأزمات والجروح المفتوحة لا يوجد طريقة لتنتصر على خيبات النهار إلاّ في الليل.


 كما أطفال الشوارع الذين يفتحون أكياس القمامة ليجدوا طعاماً، وللصدفة السعيدة قد يجدون رأس دمية يعادل غرفة ألعابٍ في قصر ملكيّ، فيقصر الليل من عين ذلك الرأس لأن العين الأخرى تكون غالباً قد اُنتزعت، وغالباً هي العين اليسارية، فالدمى التي تلتزم أقصى اليمين هي التي تبقى على الواجهات اللامعة فقط.

 لذلك لا أحد يعلم بهشاشة الأعشاش وإن كانت من حديد، لأنّ القشّ يوماً ما كان أقوى، أو كان يُخيّل أنه أقوى.
__________________________________
** ولاء سمير تميم
* اللوحة من الانترنت  

تم عمل هذا الموقع بواسطة