14 Jan
14Jan

وكجميعهم ، حين تصبح التاسعة أو العاشرة بتوقيت بلد معين، تزعق في رؤوسهم صافرة الهروب، كلّ إلى غرفة تخديره المعتادة .. التخدير الذي لا يرون من خلاله المعاناة، التي هربوا من الاعتراف بوجودها .

هروب إلى الحانات الضيقة، الحانات التي عوضاً عن أن تقدم لك صفاء النفس لساعتين قادمتين، تذكرك عند دخولها أن الصباح القاسِ قادمٌ لا محالة ببردهِ و وحشتهِ.

أو إلى الموسيقى المكدسة التي جعلوا منها عصا يكسرون بها عاطفتهم المجهولة .

وهناك هروب عصري كهروب الموضة، هروب قارئي محفزات الطاقة الإيجابية و مشغلي عَنفات الضخ الإيجابي، ناثِري باقات الزهور على أدراج المستقبل، المستقبل الملطخ مسبقاً

و الذين عاجلاً أم آجلاً سيقرؤون شيئاً عنه - عن الدماء - دماء ما! في مكان ما ! حتى ولو كان في كتب التاريخ .
 إن لم يقرؤونه سيتخيلونه .

أتذكر صديقي جيداً، الذي كان يهرب في نومه بأن يضع رأسه تحت الغطاء كنعامة، لم يستطع مرةً أن ينام ورأسه خارجاً، كان يفسر ذلك لي على أنه راحة نفسية وعادة . كنت أسعى جاهداً أن أصدقه.

صديقتي كانت مدمنة، على ما يعرف ب (بذور ميال الشمس ) و كمطحنة تعمل بطاقتها القصوى، كانت تدير رحاها ليل نهار، حتى بلغ هروبها ذات مرة أن بكت أمامي وأخذت بكامل قبضتها بذورا و أكلتها بقشرها، كان ذلك اشبه بمحاولة انتحار .

حينما كنا في بداية المراهقة، بعد أن نخرج من المدرسة نذهب إلى الطريق الغير مزدحم، نقف على طريق الذهاب و نومئ بيدنا لسيارة أجرة صفراء على طريق الاياب، ننتظره حتى يلتف من الفتحة الواصلة بين الطريقين جاهدا لتلقف الرزق، ثم نشرع بالركض بأقصى طاقتنا بحثا عن هروب مضحك . إحدى المرات تحول الموضوع إلى هروب حقيقي حينما اصر السائق على مطاردتنا والامساك بنا، حينها وقعت على الحصى وادميت مرفقي، لكني نجحت. تكشف لي وقتها أنواع ومذاقات أخرى للهروب .

في الساعة الثانية عشر مساء على الحدود الشمالية الصربية، قالت دوريتا الشرطة أن النوم في محطة الحافلات ممنوع وخصوصاً للاجئين، لكنهم لم يمنعوا القطط أبداً، فهي غير قابلة للابتزاز .

حينما خرج الجميع من المحطة، استمرت الشرطة بملاحقتهم بحجة أن النوم في كلّ مكان عام هو ممنوع، وفي طرف المدينة حاصرتهم وطلبت مقابل السماح لهم بالنوم جمع مبلغ 200 يورو . في لحظة ما هرب الجميع، هرب الجميع بسرعة فريسة ، دارت سيارتا الشرطة بحثاً عنهم، لكنهم فجأة هربوا إلى بيوتهم، فقد بدأت العاصفة الرعدية، ولن تنتهي حتى الصباح .

في هذه اللحظات هربت إلى الشارع الفارغ، الذي لا أعلم لما أنا به الآن أساساً عند الواحدة بعد منتصف الليل .

أقف على الخط انتظر الإشارة الضوئية التي لا يوجد سيارات تقف إليها . هي فقط تمارس دورها بتذكيري وإذلالي أني أنتظر العبور وحيداً . أصبحت خضراء ثم حمراء ثم خضراء ثم، ثم، ثم ...

إلا أني لم أتزحزح، أنظر مباشرةً كصنم .. بخط مستقيم يشق الشارع المرعب .. ، ساقاي مشدودتان ومجنزرتان، و متيبس كلي، ولست مستعداً لأي خطوة تأخذني إلى إشارة ضوئية أخرى لا تنتظر أحداً سواي . عيناي مثبتتان وأنا أقف ناظراً إلى كلّ شيء كصورة واحدة، أريد أن آخذه كانطباعٍ صوريّ معي ؛ معي إلى المنزل أقتات به لسويعاتٍ قادمة كما يأخذ المتجول عشاءه من إحدى مطاعم الوجبات السريعة.

_____________________________
** مرهف السليم - كاتب سوري
* اللوحة ل (ادوارد مونخ - Edvard munch)

تم عمل هذا الموقع بواسطة