قبعَ طويلاً في ذلك القاع، عميقاً في غوص الأرض, ألقى بنفسهِ في الهاوية، لا شيء سوى الظلام واليأس.
لا يدري متى بدأَ هذا! لكنه أدرك كم هو إنسان شقيّ, مثير للشفقة. لا يدري متى التهمتْ عفاريت الحزن دماغه، حتى أصبحَ الحزنُ جوهرَه, تُرى هل هي صدمته الأولى في طفولتهِ المبكرة؟ كيفَ نضج هذا العقلُ الفتيُّ باكراً، باكراً جدّاً، هل يمكنُ للألم حين يتمكّنُ من الإنسان في مراحلِ حياته الأولى أن يوقظَ في العقل البشريِّ ما قد يعجزُ الإنسانُ عن السيطرةِ عليه؟ هل تجاوز العقل حدود العقل؟؟ كيف تسللت يدُ الظلام إلى ذاته الشقيّة، متى فقدَ الإحساس الحقيقيَّ بالسعادة، لا يذكر؟ ذاكرة حارقة، قلب منهك، إنّه لا يشبه أحداً في الأعلى، ضاقت روحهُ بتصرفاتِ البشر, إنّهُ لا يفكّرُ بالخطأ والصواب, ومن هو مخطئ ومن مصيب, كما لا يقارنُ نفسه بالآخرين، قد سقمَ هذا الحكم التقليدي زماناً، أحكام البشرِ باطلة، هذا ما ردّدهُ لنفسه مراراً.
لكنَّ طبيعته لا تحتمل، الفراق, الكره, القسوة, العقل العملي, الظلم, التمييز، حتى أنّ هناكَ ما يخجلُ الاعتراف بأنه يضايقهُ, تلكَ الأمور اليومية التي اعتادها البشر- وبعضها يُعتَزُّ بها ويُنبذ من لا يعتادها - كانت تخنقهُ، تخنقهُ بصمت، داخلهُ يتآكل، لقد تعبَ من الادّعاء، ادّعاء عواطف غير موجودة، أحلام لا تخصهُ، أهداف لا تهمّه، تعب من الحضور البارد والتواجد الدّائم مع من فرضتهم الحياة عليه، تعب من مفارقة من تعلّق قلبه حقيقةً بهم.
تعب من الخوف الدّائم من حقيقتهِ، لا يعبأ بما يؤمنون, يسخر من حقدهم الأعمى، تثير اشمئزازه غرائزهم البدائية وتعصبهم الأحمق، أنهكه هذا الخوف الفطري الذي زرعوه فيه، حتى نسيَ من هو حقيقةً؟ نسيَ، متى اعترف بحبٍّ حقيقيٍّ لأحد.
الألم، وصلَ ذروتهُ، كم هو قاسٍ, كم يعاني، يا الله، لا يريد أن يرى وجههُ في المرآة لأن شيطان الألم قد بدأَ يطغي على مظهرهِ أيضاً. وجهٌ منهك, عينان منتفختان محاطتان بهالات سوداء، قد نسيَ حقّاً لون وجههِ الحقيقي لأنّ الشقاء قد لطخ لونه فاختلط لون الحياة بلونٍ أصفر باهت انتشر بقعاً على وجههِ النحيل.
كم بكى هنا، آلاف الدموع لم تغسل ما في نفسه، من أنا؟ كان يصرخُ في كل مرة، هل أنا حقيقةً من هذا العالم.
ذاك النواح يعذّبهُ، صراخ المتعبين، دموع الأطفال تحيلُ ذاته عاصفة تسونامية تكادُ تودي بروحه.
وأكبر آلامه، وجه الحبيب، زفرة طويلة متأوهة تنطلق من صدره المُثقل, وكأنها رثاءٌ لحبٍّ مات حتى قبلَ أن يولد، لماذا دائماً يحكمُ عليه ألا ينعمَ بوصال المعشوق إلا في خياله؟ كم ذاك الخيالُ قادرٌ على أن يصمد في عالمنا, كم هو قادرٌ على أن يحيي الروح المُحتَضَرة. لماذا؟ لماذا؟ ألا يستحقُّ الإنسان أن يكون حرّاً في بوح أنبلِ ما قد يخلقهُ الله في القلب، ألا تسقط الإنسانية حين نعيش حياة كاملة في نكرانِ أجمل ما في هذه الحياة؟ ماذا بقيَ منّا؟ متى نسيَ الناس غاية الحياة الحقيقية، متى سُرقت نفوسهم؟ لماذا نبوح بأسوء ما فينا على المنابر؟ ونخجل بأجمل ما قد تهبه الطبيعة للإنسان وتخصّهُ بهِ.
كيف له أن ينسى ذلك الصوت الذي أحيا روحه الباردة، كيف ينسى ذلك البريق, الحب النقي الذي هرب من حصن القلب ليتسلل على نافذة تلك العيون الهادئة, الحنونة. لا يمكن أن تختبئ الروح لأن العيون مرآة الروح.
يتذكر كل التفاصيل التي جمعته مع المحبوب، توقفت دورة الحياة عند كل تفصيل، عند كل كلمة، كل حركة، وكم حاول أن يتملص من شفاههِ المطبقة ذاك السؤال الذي لطالما عذبه ((من أنت يا حبيبي؟ هل عرفتك سابقاً؟ هل حقّاً هناك حياةٌ قد سبقت هذه الحياة, وعرفتك هناك، هل كنّا هائمين في الحب؟ من أين أتت تلك النّار التي أشعلت قلبي حينَ رأيتك، ما حقيقة هذا الألم حين تكونُ بعيداً، في ألمي وحبي لك, فقط, شعرت بأنّي حيّ, شعرتُ بالله, شعرت بقوة الروح حين اندفعت من جسدي البشريّ وارتقت عالياً بعيداً عن كل ما هو بشريّ، من أنت؟ لماذا تهتف الروح إليك، لماذا أتوق إليك؟؟ ألسنا نحنُ مغزى الوجود! أليس هذا الحب هو جوهر الحياة! لماذا بعد لقياك لم أعد أشعر بشيء، لم أعد أعي شيء وكأنّ كل ما في هذه الحياة سقطَ دفعةً واحدة أمامي، كل شيء أصبح تحت أقدامك، تافهاً لا معنى له، وكأننا وحدنا في هذا الوجود، فقط، أنا، وأنت)).
لم يعدْ يفهم تلك العواطف المعقّدة التي تحكمهُ، قلبه ينبض بأشدّ وأقسى أنواع الحب، نعم، أشدّ وأقسى. هل يمكن للحب أن يكون قاسياً! من لم تبرحه آلام الحب لم يعرف الحب.
الحب ليس نزهة بين أشجار الصنوبر, وارتشاف فنجان القهوة على أنغامِ فيروز في المقاهي. إنّه لغز من ألغاز الروح, إنّه احتضار الجسد في حضرة القلب, إنه تحطم الكبرياء وسقوط المعاني المادية, إنه تواضع الجسد حدَّ التراب، وارتقاءُ الروح حدَّ السماء حيث لا يوجد ما هو وسطيّ، لأن الوسطيّ هو العاديّ، والحب لا يدركهُ إلا من تجاوز كلَّ الحدود البشرية. إنه معركتنا مع الواقع,الماضي, العادات,التقاليد,
المجتمع والعائلة. إنه نهضة الرّوح التي لا يمكن أن تقوم إلا بالدموع والدماء.
ولكن، كيف إذاً لا يكاد يحتمل تصرفات حتى أقرب الناس إليه، كيف يقوم هذا الحب الهائل في قلبه، حب لو ترجّعت أصداؤه لهزّ أفلاك الكون، وروحه تضيق ذرعاً بكل ما يتصل بالجنس البشري. كيف يمكن له أن يحتمل هذا الصراع بين الماء والنار، كيف يمكن لقلب تهزه نسمة أن يصمد في وجه زوابع الحياة, ويتقبل شيطنة البشرية.
كيف يفسر هذا الحب للإنسانية؟ وهو قد وصل أدنى درجات الحضيض. لقد طاب له كثيراً تحطيم الكثير من البشر في ذاك القاع. داعبته أفكار خبيثة وما زالت تغريه، خاصة تلك التي تسخر من الجنس البشري. خاصة تلك التي تحتقر قدر من هم حوله وتقوي شعوره بالتفرّد والتميز.
في الحقيقة، إن سرَّ صمود واندفاع أغلبنا – إن لم يكن جميعنا – في الحياة هو سرّ غامض تنتشي به النفس البشريّة وتشعر بالتفوق أو التميّز بطريقة أو بأخرى على الآخرين. ماذا يحدث إن عرف الإنسان قدرَ نفسه حقاً؟
لكن حتى في تحوّله إلى ذلك الوغد، لا ينطفئ لهيب الحب في قلبه، ما هذا الصراع العجيب الذي يحكم هذا البشري الضعيف؟
((بشريّ)) كرّر هذه الكلمة لنفسه ببطء ((بشريّ، بشريّ، بشريّ)) في البداية خرجت ضعيفة، متهدجة، متقطعة الحروف, ولكن صوته كان يقوى في كل مرّة وهو يرفع رقبته الحانية ببطء شديد نحو الأعلى، حين وصل لحدٍّ ما، شعرَ بدفء عجيب يتسلل إلى جبهتهِ، عيناه نصف مغمضتان، إنها سلاسل الشمس تتسللُ هادئة إلى وجههِ المتعب، وكأنه كان يخاطب ذلك الزائر المفاجئ ويقول(( بشري، بشري)) إنه يشعر بحرارة الشمس تشتدّ أكثر فأكثر، إنها تخترق أركان جسده، تضيء عتمات ذاته، يشعر بأنه كان على موعد معها، إيقاع نبضه يتغير، وكأنه يهيئ لسمفونية جديدة ستحيي حدثاً عظيماً، أشعة الشمس تزدادُ اختراقاً لذلك الركن المظلم، النور ينبثق من كل زاوية وذلك البشريّ قد بدأ يشعر بما هو مقبل عليه، (إنها الحياة). على أحد الجدران أضاءت له الشمس خيوطاً قد نسجها العنكبوت ((لعلها خيوط أكوتاغاوا ريونسكي)) قال في نفسه. لقد بدت له تلك الخيوط رائعة, قوية, متماسكة، نبضُ قلبه يعلو، تجرأ أخيراً ونظر إلى الشمس, لقد كانت هادئة لطيفة, تخفقُ حولها أرواح الحب, تحجبها حيناً وتكشفها أخرى وكأنها تعدل من توهج أشعتها لتسقط لطيفة, متزنة على روحه الخائفة. رأى عيون المحبوب تنظر إليه من قرص الشمس. تسلق خيوط العنكبوت، لم يردعه خوفه من انقطاعها, كان يقوده شيء واحد فقط (نداء الشمس) إنه نداءُ الحياة الذي لا يُقاوم، الحياة تناديه بكل ما أُوتي هذا الكون العجيب من قوة, إغراؤها يشتد بروحه، إنها الحياة بأبيضها وأسودها, بحلوها ومرّها, بعنفها وهدوئها, بجمالها, باندفاعاتها الحمقاء, بمغامراتها المجنونة.
حين عاد إلى الأرض وخرج من جحره, نهض ببطء وتوقف عن ترداد كلمة (بشري) تلك الكلمة التي يلفها الخوف بكل هواجسه، ما يحيا فيه فقط الآن هي الروح، هو الإنسان.
ذلك الألم قد حطم فيه الكثير ,لكن فوق الحطام كان العبور، العبور نحو الحقيقة.
((لم أعد بشرياً، أنا أحيا بالروح)).
ارتسمت ابتسامة هادئة على ثغره الواثق وقال:
((إذاً هذه هي القيامة)) .
_____________________________________
* ميموزة الأشقر - مهندسة سورية
** الصورة من الانترنت
*** العنوان لمولانا جلال الدين الرومي.