ها قد حاولت للمرّة العاشرة، أستلقي، ممددة، قرنبيط ليس بوزنٍ ثقيل يتكوّر على صدري، يتدحرج، سقط بين أفخاذي، مزّهر، كبير، صلب، كما أحبه، حاولت تسلقه، اتّخذَ مكاناً تحت ظهري، وضعت جسدي كلّه عليه، بدأت بيدي اليمنى، قدمي اليسرى، ثمّ اليد اليسرى والقدم اليمنى، سأغادر هذا المكان، تكوّرت فوقه، أصبحت بارزة، سأكمل شرب قهوتي فوق القرنبيط. قبل ساعتين كان بإمكاني أن أحلم، ربما سأختبر أحلاماً جديدة، ربما ستتكرّر بعض الأحلام الّتي سبق أن شاهدتها.
بقيتُ طوال الليل مستيقظة، صامتة، أشعر بالبرد الشديد في نهايات أصابعي كما كان يصيبني عندما يسألني أحد أسئلة تتعلّق بالمسائلِ الوجوديّةِ. في الحقيقةِ لم يبدأ الأمر هكذا، لم أكن أتعجل الرحيل، لنقل إنني كنت على قناعةٍ تامّةٍ، إنني محور العالم وفيَ ينطوي الوجود الأعظم، وإذا اختفيت سيختفي العالم بدوره. ترتفع رطوبة شديدة من القرنبيط الّذي أصبح الآن أسفل ركبتيّ الاثنتين وها أنا متخذة وضعية الزاوية القائمة. ماذا لو لم يعد القرنبيط يتحمل ثقل وزني وانفجر، هل سينفجر ماءً؟ تذكّرت بداية تشكل الأرض والبحار. المهم أنّ هذه الأسئلة لم تعد تهمني، ببساطة لأني وحيدة أو لأني أشعر أنني مذنبة في كلّ تفصيل من تفاصيل خلق الوجود.
حقيقةً، بقيت سنوات أتعايش مع شعوري بالخزيّ والذنب. العالم هذا كله أنا. لنقل إننّي فوق هذا القرنبيط قمت بأشنع الأفعال، لنقل إننّي اشتريت مسدّساً، حشوته وقتلت شخصاً رأيته من نافذة منزلي، أو إننّي بقيت أقفز على هذا القرنبيط لينفجر ماءً ويُغرق العالم، لنقل إننّي سأغرقُ العالم وسأبدأ بخلق عالمٍ من الصفر. هل سأشعر بالخزيّ حين أجد نفسي على الأرض مجدداً؟ هل من الممكن أن أتذكّر الضحايا الّتي قتلتها وأغرقتها؟ هل سأوجد على الأرض مبلّلة؟
منذ ثلاثة أيام مررت بجانب امرأة، رأسها يشبه الصندوق، كان وجهها أحمر ناضجاً مع أن الجوّ بارداً، كانت تغني ذاكرتها، في منتصف الشّارع، كانت تقول بأنها ذبيحة الله، كان غنائها ينسلخ شِعراً من مسامات جلدها وينزلق ماءً، شعرت أن جلدها يتّفتت من البرّدِ والشِعر. كانت حزينة رقيقة كان الشِعر يدهس أفخاذها ووركها، كانت تغني عن الدّجاج والعار والخطايا، عن النهر المقدّس، عن البحار والغرق، كانت على أرض ما قبل زمن الخطيئة؛ إنّها الأرض ما قبل الخطيئة. أحسست أنّ قلبي ينقبض، أنّ لهاثي يتسارع، شعرت برطوبة، برودة، إنني أموت، كانت تقول "أيّها السادة سأغرقكم جميعاً" كنت أفكر وقتها بالرحيل.
كلّ انفعالاتي تندمج بالقرنبيط، ربما رغبتي بأن أكون كالمتحوّل وحيد الخليّة ليس بشيء ذي أهميّة، تعرفت كيف لإيقاع تنفسي علاقة وثيقة بأعضاء جسدي فوق هذا القرنبيط، مثلاً يصبح إيقاع تنفسي بطيء وأرجواني عندما يصيب قدمي اليمنى الخدر. اخترعت أساليب جيدة للنوم، والتمدّد، والجلوس، وسميتها وضعيّة المانجو بنكهة العسل، والأغرب من هذا أنني كنت قادرة على الانسياب بين هذه الوضعيّات بخفة.
لاحظت ثقباً في قدمي اليسرى كما أنّني لاحظت ثقباً أخراً في كاحلي الأيمن. كنت أتذكّر صوت المرأة الّتي تغني عن الخطايا والعار، كنت أتذكّر رغبتي بالرّحيل. كانت تلومني على تفسّخ جسدها الّذي يتفتت مع كلّ انحناءة تقوم بها. كانت تنظر لي وحدي تحمّلني مسؤوليّة وجودها في هذا العالم. أيعقل أن تكون من الضّحايا الّتي حكمت عليها بالغرق؟
حضورها مرتبط بحضوري، كم أتمنى أن أكون من ذوات الخليّة الواحدة، أنا مدينة للعالم بوجوده، كنت أرغب بالرّحيل لكن إذا رحلت فالعالم سيحتضر في مكان ما، ربما أصدقائي سيحتضرون في مكان ما، ربما الرجل ذو الأسنان الصفراء الّذي يسكن قبالة منزلي لن يكون موجوداً.
لا خلاص من التفسّخ، اللّعاب ينساب من كاحلي ومن أذني. أصرخ و الصوت يخرج من سرّتي، حسنا سأبحث عن بقايايّ، ربما من الجيّد أن تتنقل عيناي للمكوث عند كوع يدي اليمنى والأخرى عند اليسرى ربما سأحظى بمساحة أكبر للرُؤية، لم أستغرب ما يحدث. حاولت استدعاء أول جسد امرأة خطر في ذهني علّني أجيد ترتيب أعضاء جسدي وإعادتها لمكانها، لكن لا سطوة للذّاكرة. هنا كان القرنبيط يغزو رأسي، يتكشّف جسد القرنبيط. ما كان يعنيني أين كنت واقفة، فكان الماء يصل لحدود وركي، إنها غواية البحر والغرق، في اللحظة التي سأذهب بها سيتلاشى العالم، إنه الفزع، الوحدة.
لم أشعر أنني سقطت من مكان مرتفع، المكان فارغ، مظلم، لم أشعر إلاّ بالبرودة، لم أشعر أنّني أقف على شيء صلب كما كنت فوق القرنبيط، لا أرى شيئاً ولا أستطيع الحركة، غير قادرة على النّطق أو الصّراخ، من حولي صوت ضحك، سخريات، رقص، غناء، حياة. كـأن العالم يؤكد حضوره وغيابي، كلّ شيء حاضر، كيف ممكن أن يحدث هكذا غياب، غيابي أنا!
__________________________________
** هديل انديوي - كاتبة سورية .
* اللوحة للفنان الروسي "مارك شاغال".