09 Mar
09Mar

(الساعة)

كنتُ عائداً من المدرسة التي طالما كرهتها، أجرُّ حقيبتي الثقيلة وكأنني جمل في نهاية رحلته، سمعت صوتاً يناديني، التفت إلى الأرض المجاورة، كان العجوز أبو العبد، ابتسم لي، ثم قطف نبتة غريبة وقال :

- أتعرف ماهذه؟

- لا

- إنها ساعة نباتية، سأنزع عوداً من زهرتها المتيبّسة، ثم أزرعه في كم صدريتك، سيدور ببطﺀ حول نفسه، حتى ينهي دورانه، الوقت هنا دقيقة واحدة لاتتكرر، مدَّ يده وانتزع عوداً، ثم قرّبه ببطﺀ من كمي وزرعه فيه، بدأ العود يلتفُّ حول نفسه، أخذت نفساً عميقاً، أحسست أنّ كلّ شيﺀ سينتهي بعد دقيقة، ثم بدأت بالركض، وصلت إلى البيت، أخذت جوال أبي، وصعدت إلى السطح، صوّرت الشمس، نزلت بسرعة وأخذت زجاجة ماﺀ وركضت إلى الوادي القريب، تعثرت، وقفت وتابعت الركض، الوادي كثيف الأشجار، لايدخله سوى القليل من الضوﺀ، وصلت إلى شجرة البلوط الكبيرة بجانب السور القديم، كانت بنفسجاتي بانتظاري، شممتهم للمرة الأخيرة، أخرجت الجوال وأريتهم صورة الشمس التي كنت أحدثهنّ عنها، سقيتهم لآخر مرة، نظرت إلى العود، كان لايزال يلتف، لابدّ أن الدقيقة مضت، شيﺀ ما خاطئ، لا بد أن أبو العبد لايعرف كم من الوقت يدور العود، إنني أملك وقتاً إضافياً الآن، صوّرت البنفسج، وعدتُ إلى سطح بيتنا حيث توجد الشمس، رفعت الجوال وصرخت في وجه الشمس:

هذا هو البنفسج التي حدثتك عنه.

 نظرتُ للعود كان لا يزال يلتف، ماذا أفعل بكلّ هذا الزمن ،بدأت أنفاسي تتسارع، أحتاج شيئاً أفعله، قررت أن أصور (مقطع فيديو) للعود،  كي أعيد تشغيله دائماً، سأبقى أركض بين البنفسج والشمس، أعيد تشغيل الماضي كلّ يوم، هكذا لن أتوقف عن الجري في الزمن حتى إن توقف العود، فتحت جوال أبي لأبدأ التصوير، فوجدت (مقطع فيديو) لعود يلتفُّ حول نفسه وصوت أنفاس متسارعة معه .

*

(بريد الأطفال)

أغلقت الظرف وأعطيته لأبي، لكنه قال لي بأنه سيجلب ورقاً ملوناً كي أكتب عليه الرسالة، الورق الملون سيكون أجمل.

انقضت طفولتي كلّها وأنا أنتظر أن تقرأ المذيعة رسالتي التي لم أرسلها، حين كبرت عرفت أن أحلامي لم تتحقق لأن رسالتي لم تُقرأ في البرنامج، لذلك راسلت البرنامج الذي توقف، وبعثت لهم برسالتي القديمة بعد أن كتبتها على ورق ملون، تعاطفوا مع قصتي لكن المذيعة تقاعدت لذلك طلبوا مني الحضور لأقرأها، البرنامج كان مباشراً، جلست على الكرسي، قلت جملًا تم تلقيني إياها، ثم قرأتُ رسالتي، كان المصور يبكي أمامي، وكذلك المخرج،  وأنا أنظر إليهم وأقرأ بملامح حيادية، أنهيت الرسالة ثم عدت إلى بيتي، استلقيت في الفراش، لا أنظر إلى شيﺀ، اتصلت بأمي..

- هل شاهدتِ البرنامج؟

- شاهدته، لقد بكيت كثيراً

-هل سجلتِ الحلقة؟

-لا لم أتذكر

اتصلت بأصدقائي، كلّهم كانوا فرحين بي، لكن لم يسجل أحدهم الحلقة.


لم أسمع أحلامي، كنت أعرفها، لكني كنت أريد ان تقرأها المذيعة ، لا أن أتلوها أنا،

أريد أن تقول المذيعة أنا الحسين، أهوى الكتابة والرسم، أن تقول أحلم ان أكون رائد فضاﺀ مثل (يوري غاغارين) أو كاتباً، وأن تهديني في النهاية مشهداً من هايدي، بكيت حلمي الضائع ونمت.

 في الحلم، كانت السماﺀ تمطر أوراقاً ملونة، ما أن تمسّها يدي حتى تصبح بيضاﺀ، وكعادتي صنعت طريقاً أبيضاً وسط الحلم الملون، ركضت كمجنون كي ألامس الألوان، حتى سقطت عن سرير الحلم، فتحت عيني خائفاً، سمعت صوتاً من الغرفة الأخرى:

"أعزائي الكبار نبقى الآن مع إعادة لحلقة اليوم من برنامج بريد الأطفال".

*

(فرط نشاط الذاكرة الانفعالية)

هكذا تم تشخيص مرضي، مرض بسيط جداً، أفعل شيئاً فيذكّرني بشيئ حدث في الماضي فأحيا في الزمنين على أنهما حقيقة حاضرة، ولا أعود أميز أيهما الماضي وأيهما الحاضر..

كنت عائداً إلى البيت، المشي في شوارع المدينة هو متعة دائمة، أسمع وقع خطواتي، نظرت إلى قدمي فرأيت حذاﺀً صيفياً مع أن الجو ماطرٌ، نظرت للأمام فرأيت قريتنا، بدأت أعراض المرض!، مددت يدي إلى جيبي كي آخذ الدواﺀ، لكني لم أجد شيئاً في جيب (صدريّتي) المدرسية، تباً لي أين وضعت الدواﺀ؟، خلعت حقيبة المدرسة وأفرغتها على الطريق، تناثرت الكتب والأقلام ولم أجد شيئاً، جلست وحيداً، رأيت أبي قادماً على دراجته النارية من بعيد، لملمت الكتب بسرعة، وابتسمت له، لكنه مر بجانبي ولم يتوقف، مددت يدي في جيبي مرة أخرى فوجدت الدواﺀ، نظرت لحذائي كان شتوياً، أخذت الدواﺀ وركضت إلى البيت، زوجتي كانت بانتظاري، نظرت لها،ثم ضممتها بشدة

- مالذي حدث؟ لما أنت خائف؟

- لقد مر أبي ولم يأخذني معه!

- لابد أنه لم يرك يا ولدي!!

رفعت رأسي عن صدرها بخوف، كانت أمي، لا بل زوجتي .. لا بل ..

احتضنتها بقوة وصرت أصرخ، سيبدأ مفعول الدواﺀ، سيبدأ مفعول الدواﺀ، اعتصرت عينيّ و حين رفعت رأسي، كانت زوجتي فقط..

في اليوم التالي وأنا ألبس ثيابي، قررت ألّا أخرج من المنزل، خفت أن أغرق في ذكرى شارع ما أو مدينة ما ولا أعود منها، الآن حتى إن غرقت في إحدى الذكريات، ستكون في بيتي، ابتسمتُ ابتسامةَ نصرٍ و خلعتُ (صدريّتي) !! .
_______________________________________________
** الحسين الحسن - كاتب سوري

* الصورة من فيلم (cinema paradiso)

تم عمل هذا الموقع بواسطة