كالشق في جدار الحديقة الخلفي، تغتصبني الأعشاب البرية رغماً عن كل الأحلام التي بنيتها بأن أكون جداراً وحسب.
في النار عزائي الأول والأخير، عرفت القنوات الأجنبية منذ بدأت الحديث بالكاد، إنجاز لمعيل العائلة يفخر به حتى بعد عقدين على تحقيقه، يكاد يهترئ، ولم يكن الوحيد بتاتاً، لكنه ما زال يفاخر بأنني، ابنه، عرفت القنوات الأجنبية منذ بدأت الحديث بالكاد. ما لم يعرفه هو أنني لم أقصدها للمتعة يوماً، ولكنني كنت أبحث عنها في كل ما عداه، والمتعة الأكبر كانت، منذ البداية وحتى اليوم، تلك الساعات التي أقضيها محدقاً في النار بكل رقصات ألسنتها الإيحائية، بكل الأرواح التي تلفظها مستاءةً من كونها على قيد الحياة.
اليوم أيضاً، في لهيب الصيف هذا، أحدق في النار طويلاً، أقضي ما أقضي من كل يومٍ على شاشة الكمبيوتر، أشاهد كل هذا الفناء وأبتسم إلى من أمامي، أخبرهم عمن مات في الشرق ومن مات في الجنوب، يردون علي بأن "واو"، أحافظ على ابتسامتي، أبلع الغصة في كل يومٍ، وأكمل ذاك التأمل. شاهدنا النيران تلتهم أحد مباني شارع الأغنياء منذ فترةٍ، ذهلنا جميعاً، وقفوا يتأملون بخوفٍ، ووقفت أبتسم ضائعاً في كل ذاك الجمال. افترضواً، لجهلهم بي، أن الابتسامة نتيجة حقدٍ طبقيٍ ما كوني عشت سنواتي الأولى في الحياةِ فقيراً، تناسوا أن أبي دفع ثروةً لنحصل على القنوات الأجنبية حينها، وأنه دفع ثروةً أخرى لشراء كاميرا فيديو ذات أشرطةٍ صغيرةٍ لم أفهمها حتى يومنا هذا، وتناسوا أنه كان يأخذنا لنصطاف في البحر كل عامٍ، وإن عنى ذلك أن نقضي بعض ليالي الشتاء في بردٍ أكثر قسوةً مما للأطفال أن تحتمل، كان الأمر يستحق شيئاً من المساومة، ولن ألومه ما حييت.
لكنني البارحة متّ ألف مرة، ليس الأمر أن حدثاً قد حلّ فقتلني ألف مرةٍ، وليس أنني اضطررت لمواجهة خطبٍ جللٍ فمت في مواجهته ألف مرة. جل ما في الأمر أنني أدركت البارحة رتابة الأيام التي أحيا، أدركت أنني لم أحظَ بمناسبة تستحق الاحتفال منذ أكثر من سنة ربما، أنني أقضي من وقتي في متابعة ألسنة اللهب ما لا أقضيه في القراءة والكتابة والعمل والجنس والسهر والتأمل مجتمعين؛ لا يمكن أن تحسب التأمل في النار تأملاً، في أحسن الأحوال هو إضاعةٌ للوقت في عد الأرواح التي ترتقي من الأرض إلى الهواء دون أن تمر بتجربة الحياة كما نعرفها، وفي أسوأ الأحوال هو نزعة سادية نحو المتعة بمجاز سكرات الموت تلك، لكنه ليس تأملاً، ليس تفكراً في معاني الكون أو الحياة أو الحرب أو الأفكار التي دفعت ذكراً وأنثىَ لتبادل القبلة الأولى في التاريخ.
...
بعيداً، على رأس الجبل وحدي، كم أشتاق الهدوء، تبدو المدينة كانعكاس السماء على النهر من هنا؛ البيوت التي تناثرت بين كل الخضرة التي يزفها الربيع، دون أي ضابطٍ لتناثرها بهذا الشكل، نقاطٌ متناهية الصغر تقابل الأفق، لموضع كلٍ منها قصةٌ أطول من أن تروى، وأكثر امتلاءً بالتفاصيل التي لا يرغب أحد بالاستماع لها. اصطفائية التكوين ههنا تتجسد في رأس المال والسلطة والمصالح والثروات التي جمعت حد التكديس دون سببٍ واضحً، وانتهى بها الأمر بأيدٍ لا تدرك أن عمراً فني في تجميع هذه الثروات، فأنفقتها تضيف نقاطاً صغيرةً في هذا المسطح المتموج أبداً في وجه ناظره من الأعلى؛ لا يد للبشر في رسم ملامح هذه المدينة، وكل اليد للبشر في رسم ملامحها حد أنها أكثر حياةً من معظم من عاش فيها منذ النشأة الأولى.
أن تنظر الغيم يهرع إليك بكل حقد الريح على البشري الذي دنس رأس الجبل بأن جلس ولم يخف، أن يتهاوى القلب لحظةً أمام هول القادم على عجلٍ بكل الضخامة التي لم يعهدها إذ كان ينظر إليه من الأسفل صغيراً صغيرا، ثم أن يصطدم بك بلا هوادةٍ دون أن يحرك فيك قيد شعرة. حسناً، قد يتحرك شعرك قليلاً، وقد تشعر بالتغير في شهيقك، وقد يتكاثف الماء على بشرتك متحداً مع البرد القارس على رأس الجبل عليك وحدك، فتهز رأسك مرتعشاً، وتطلق شتيمةً عبثيةً غير ذات توجيه محدد، ثم تعود للإمعان في تأمل هذا المكان.
كل السياح يرغبون بالصراخ هنا، وكل السياح يرغبون بالتقاط الصور لكل الزوايا التي يعتقدون أن الله لم يخلق لها مثيلاً في العالم بأسره. أنا أيضاً أعتقد أن الله لم يخلق مكاناً بهذا الجمال، لكنني لا أرغب بالصراخ فيه، ولا أرغب بالبرد في حضنه، ولا أرغب بخوض تجربةٍ غير عاديةٍ بينما أجلس في ربوعه؛ أريد أن أحترم هذا المكان، أن أجلس صامتاً متأملاً مدركاً لكل مفرداته، سواءً تلك التي صنعها الله أم التي أقحمها البشر في أفقه عنوةً، وأريد أن يحترمني هذا المكان، فلا يغتال سموي الروحي -أو أياً يكن- بغيومه، أو ببرده القارس، أو بابتعاده الحقيقي عن أقرب أكشاك الدخان، معالم الحضارة الأهم، مقدار أفقٍ أو أقل قليلاً. لماذا لا يكون هذا المكان قريباً من كل شيء، حارق الشمس، وبغيوم ذات إحداثيات واضحةٍ عني، تحلق فوقي ربما، أو تطفو تحت رأس الجبل، وتسمح له بشقها دون تسلقه للوصول إلي مع كل هبوب ريحٍ لا يحمل أي معنىً أو هدف.
...
لا أعرف إذا ما كنت سأحيا اليوم أم لا، ولا أعرف عن مخططاتي بخصوص الغد شيئاً. أعرف أن الموت موتي، والحياة حياتي، وأعرف أن الوقت أكثر قيمةً من أن يضيع هباءً، وأعرف أن التأمل في كل اللهب الذي اشتعل، وفي كل ذاك الذي سيشتعل، لن يغير من حقيقة أنني أراقب العمر ينقص روحاً إثر روحٍ مع كل تلك الألسنة.
أريد الحياة. أريدها حقاً، لكن الدعوة إلى موتي البطيء هذا، مرةً إثر أخرى، أكثر جمالاً من كل ما أراه حولي؛ "دعني أمر مرور الكرام، لن تذكرني، كل من ذهب أنا، وكل من سيكون يوماً، دعني أمر مرور الكرام، ودعني أصير ما أشتهي."
__________________________________________
** حازم رعد - كاتب سوري
* العمل الفني من تصميم الكاتب