يمكن تسميتها إغواءً تلك القوة التي تجذبك لتجلس على ضفة نهر باسطاً أساريرك، لا لمتعة منظر عادي، إنما لمداعبة روحٍ لا يغويها إلا نهر عارٍ كامرأة تستجدي الغرام.
لم يتيسر لي أن أراقب بردى يوماً، ولذلك سأضع حججاً لا منطقية حول ذلك، وسأكذب ككل الكاذبين الذين لم يتيسر لهم مراقبة السين أو الفلتافا أو أي نهر في مكان ما.
هنا على صفحات المياه المتدفقة على مهل، يكشف النهر ادعاءات الكاذبين، المشاة والعشاق والإذاعات والصحف، وحتى الأفكار الداخلية التي تطرح أسئلة لا أجوبة لها والتي يغريني النهر أن أطرحها عليه بإلحاح عشرات المرات عله يتراجع عن تجاهله ولعله يعوضني عن اللحظات التي لم أجلس فيها إلى نهر آخر في حياة ما .
هنا أسأل النهر الذي أثق به ثقة فطرية قادمة من الأبد.
أسأله تحت تأثيره، يا صديقي !! لما ينبغي على الإنسان أن يكذب ؟
فيتهادى صوت ساكن بعيد وواضح وكأنه صوت مستمر، يخاله المرء قادماً من أصقاع روحه لا من خارج صيواني أذنيه : - لأنكم تجدون في الكذب نجاتكم ، كما تجد عناصر الطبيعة في الصدق خلودها.
إنكم حتى لو تجرأتم وقاربتم الحقيقة فستلبسوها أثواب الزيف والنكران لكي تحيوا وفق الأكذوبة التي تنسجوها والتي ستفترسوها لاحقاً، ثم ستنسجوا غيرها بحجة أن الثانية ستكون مناسبة أكثر وستصنعون منها الآلاف التي تتوهمون أنها مناعتكم ضد الحقائق، حقائق السعادة والمعاناة، وحقيقة الموت التي تشغلكم، ومن خلال هذه المناعة ستنامون قريري الأعين كل مساء.
أما أخطر الكاذبين وأكثرهم شراً هم الذين يعيدون صياغة الكذب وتطويره، كالحالمين وأصحاب الهموم الكبرى والفنانين و الفضوليين الباحثين عن التفسيرات الشاقة، وخصوصاً أولئك الذين يغالون في تقدير كذبهم على أن فيه مس من العظمة، ولو أتوا إلي يوماً لأخبرتهم كما أخبرك الآن عن معنى السخف، معنى ضآلتكم على مدرج الزمن العظيم معنى تعقيد الإنسان الكاذب الذي لا يتوافق مطلقا مع بساطة الطبيعة الصادقة ولذلك توجد المشاكل الكبرى باستمرار.
ثم إني أنا لا أرهق نفسي بما لا أستطيع، ولا أعد صياداً بما لن أهبه إياه، ولا أقول هنا أني أرسله نحو أدراج الخيبة. ولذلك لا يمكن لنهر أن يأخذ صيتاً جيداً أو قذراً إلا إذا كان أسطورة حفرتها يد كاذبة .ولكني أهب بعطاء من أراد إلهاماً أو طمأنينة، أهب بعطاء من يأتي إلي ولا يأبه لأحد سواي، ولكني حقود وحقود جداً على الذين جلسوا إلي بأرواح آسنة، أرواح مثقلة بانتظار الغد.
ثم صرخ الصوت الذي صم أذني، ونفث الجليد الذي استشرى شراييناً متشابكة، واستحال نهرا آخر تراه النهر نفسه يسري من رأسي حتى أخمص قدميّ ثم رفعني عالياً، وكدفقةٍ من حقيقةٍ خالصة، أمر بصوت لا يعلو فوقه صوت وبعث بلغزه ((على ضفاف الأنهار دعك من طرح الأسئلة، تنفس بنقاء أو ارحل بسلام )).
______________________________________________
** مرهف السليم - كاتب سوري
* اللوحة للفنان الفرنسي "لوريس دي فلامينك"