19 Feb
19Feb

عد إلى حيث الغراب ينتظرك كل صباحٍ على عمود الكهرباء أمام غرفتك، لم ينعق منذ غادرت هذا المكان،
 سعيدون نحن بصمته، لكن الغراب حزين، كيف لك أن تترك وراءك غراباً حزيناً في بلاد عمادها الموت؟

عد إلى حيث أنفقت ثروةً على الكتب التي تزين حائط غرفتك؛ من كل معرضٍ، وفي كل مناسبةٍ، وكلما مررت من أمام المكتبة.
 عد وامنع الآخرين من لمسها كما فعلت دوماً، لا أريد حائطاً بلا كتبٍ في هذا المنزل، لكنني لا أريد لإخوتك الرحيل.

عد إلى حيث الهواء غير عليلٍ، إلى الفراش الذي طرحك المرض عليه أكثر مما سيطرحك أحدٌ على فراشٍ في كل أيام حياتك.
 عد إلى حيث عطشنا ذات يومٍ، إلى حيث ادعينا الدفء لئلا نقلق بعضنا البعض يوماً. كان الرغد أجمل عندما كان حلماً بعيداً.

لن تعتاد على وطنٍ جديدٍ متى اختزلت الوطن فينا ذات يومٍ،
 لن تطبخ وجبةً ألذ من طعام أمك
 على لسان الطفل فيك.

حتى الله، كلما ناجيته سألك؛ أما حان ميعاد
 المجيء؟ حتى الله تركته هناك؛ هو
 أكثر رحمةً في البيت منه في البعيد البعيد.

عد إلى حيث الخريف أكثر عنوةً، يخلو من الجمال الذي يدعيه الآخرون، إلى حيث يقسو المطر حد الندبات على بشرتك الناعمة.
 عد إلى حيث لا ابتذال في التسميات، هنا كل القبح قبحٌ، وكل الجمال جمالٌ هنا، ولا سحر إلا فيما يدعي الغرباء.

وعد إلى حيث يكذب الجميع حسب الحاجة للادعاء، كلنا نقف خلف هؤلاء أمام سلاحهم، وكلنا نقف خلف الآخرين أمام سلاحهم،
 ولا أحد يرغب، مهما ادعينا، إلا بشيء من الحياة.

عد إلى حيث نجد كل يومٍ سبباً للاحتفال على جثث الضحايا؛ يوم الشجر، واكتمال القمر، وعشرة محارف نصبناها في قلب ساحتنا
 واحتفلنا بانضمامنا إلى ركب الحداثة، ثم انتظرنا بضع ساعاتٍ ليقلنا الـ"ميكرو" إلى حيث نقطن من جديد.

...

كل شيء عادي مذ ذهبت.
 لم يبك الغمام غيابك، ولم تكفهر السماوات،
 لكن أحد الأبواب تحت الجسر عاد يفتح من عند السائق.

وما زال الثكالى بازدياد، وما زال اليتامى بازدياد
 والحرب قائمة، والمنتصر الوحيد هو قطط الشوارع.
 هم الوحيدون الذين لا يعانون الجوع في هذا المكان.

لم يتغير الكثير، حقاً،
 جل ما في الأمر أن شارع الملاهي الليلية
 انتقل إلى الساحة في عاصمتنا الجميلة.

وأننا تأكدنا من نسبية الجمال
 إذ رأينا ذات جفافٍ قاع نهرنا العظيم،
 مزخرفاً بالخراء.

وأننا ندرك اليوم أن الحقيقة لا تهم
 وأن الزيف لا يهم، وأن المهم هو ألا ننشر الغسيل
 على الملأ، وإلا سندفع الثمن، هكذا قال المحافظ.

عد لئلا تصدمك الحياة إذ تكتشف أن
 ترادف المعاني بين الأمس واليوم والغد
 -قريباً أو بعيداً- صنيعتك، ولا ذنب للحرب فيه.

عد لئلا يغتالك ابتعادك عن كل هذه الرتابة
 بعد أن اغتالك الوطن في حضنه ألف مرةٍ
 ورأيت في احتفائك باغتيالك واجباً نحو الوطن.

...

لا متسع في الحياة إلا لحياةٍ واحدة، كيف
 تحيا من جديدٍ بعدما مات البشر فيك إذ عشت
 نصف ساعاتك محدقاً في الظلام؟

كيف تحيا من جديدٍ بعد أن قام الطفل فيك
 بفعل الانتحار، وارتعد الرجل فيك، فعاش
 بلا طفلٍ، ولا حلمٍ، ولا وطن..؟

عد، وأكمل موتك ههنا، بيننا،
 سريعاً كحلمٍ، بطيئاً كعذاب قبرٍ،
 بلا فرق بين البدايات والنهايات، شهياً
 كمائدة العائلة، ذات عيدٍ عائليٍ ما،
 على الكرسي المفضل للجميع


_______________________________________________________
** حازم رعد - كاتب سوري.

* اللوحة (Untitled - Two heads on gold) للفنان الأمريكي "جان ميشيل باسكيا"

تم عمل هذا الموقع بواسطة