20 Jan
20Jan

يُحاصرني الملل رغم كثرة انشغالاتي، ولأني اجتماعيةٌ جداً أو هكذا يقول لي الآخرون، أدردش معه.

نحاول أن نتسلى، أطلب منه أن يقف على ساقٍ واحدة. هو لا يتردد، يُساير جنوني، يقف تماماً مثلما طلبت منه على ساقٍ واحدة.

ثم ينظر لي بطرفِ عينه ويقول بجديةٍ مفرطة: أرجوكِ، التقطي لي صورةً تذكارية!

 يضحك على نكتته بطريقةٍ هيسترية فأشاركه ضحكه، ومثل مهرجين تعيسين يختبران الضحك للمرة الأولى. لا نتوقف عن الضحك حتى تتسرب الدموع من زوايا أعيننا.

يصمت، أصمت كذلك.

واسمح لنفسي بالغرق في مراقبته وهو يجلس أمامي، أقول لروحي هذا الملل يعرف كيف يكون رفيقاً جيداً، لقد تعود عليّ وتعودت عليه.

لا أذكر أني عشت يوماً بدونه.

 لقد صار أليفاً مثل قط المنزل، مثل الدجاجات التي يربيها ابن عمي في حديقة منزلنا الخلفية، تسمع صوت النافذة يفتح فتركض لتقف تحتها وتنتظر وليمةً تهبط من السماء.

هذا الملل كذلك ينتظر أن أجلس وحيدةً، بصمت. لا حاجة له لنوافذٍ تفتح حتى يكتشف أني أفكر بأشياءٍ وانشغالاتٍ كثيرة.

 يركض نحوي يقف على ساقٍ واحدة ويقول لي: ارجوكِ، خذي لي صورةً تذكارية! هيّا نتسلى.

 أعرف أنكِ لا تحبين أن تجلسي وحيدة!

**

أحاول قتل هذا الملل الذي يحشو الساعات في غيابكَ بفعل أشياءٍ غريبة ومجنونة، منذ مدةٍ مثلاً قررت أن أغير ملامح العالم، فوقفت أمام برج بيزا المائل مرتديةً حذائي الرياضي ذو الشرائط الملونة وبقدمي اليسرى وبكل ما أوتيت من قوة وعزم ركلت البرج الشهير فتخلى عن ميلانه المضحك، كل ذلك تم وسط دهشة السائحين بقدمي الفولاذية وبراعتي في صنع المعجزات.

 البارحة كذلك حاولتُ تجاهل الملل المربك بدونك، جلست إلى التلفاز لأشاهد قناة ناشيونال جيوغرافيك، كان البرنامج يدور حول أدغال أفريقيا، والحيوانات الظريفة التي تعيش هناك، لا أدري لماذا خطر ببالي أن أمد يدي نحو الشاشة، فجأةً وجدتُ نفسي أقف بجانب قطيع الزرافات السعيدة، كان شكلي مضحكاً جداً، زرافاتٌ فارعة الطول وأنا "عقلة الإصبع" كما أحب أن أقول عن نفسي كلما سألني الآخرون كم يبلغ طولي.

على فكرة نسيت أن أخبرك كم أنا متصالحة مع نفسي في موضوع الطول هذا، حتى إنني لا أحبذ ارتداء الكعب العالي إلا في المناسبات الخاصة القليلة جداً.

 دعك من طولي ولنعد إلى حديثنا الأهم حول الملل الذي ينهش رأسي دائماً، فبينما كنت أقف بجانب الزرافات مرت من أمامي عائلة الفيلة وبلا وعي مشيت وراءها لا ألوي على شيء، توجست الفيلة مني خوفاً فراحت تهرول أمامي مسرعة، ركضت خلفها، وأنا أفكر كيف يصبح شكل الفيلة الراكضة الشبيه بحلوى الجلاتين الراقصة مثيراً للضحك والابتهاج. راقبت الفيلة حتى ضجرت.

سابقت القردة في تسلق أشجار الموز، صحيحٌ أني لا أحب الموز لكن كل شيء يصبح لذيذاً عندما نكون جائعين.

تأرجحت على الأغصان كطرزان الرشيق، سبحت في النهر، لا أعرف كيف سبحت وأنا لا أجيد السباحة لكن مجموعة التماسيح التي رأتني وجبةً خفيفة يمكن التسلية بها حتى يحين موعد العشاء ساهمت في جعلي سبّاحةً ماهرة، أترى كم هو الخوف قادرٌ على صنع المعجزات؟!

 تعبت من الركض والقفز والسباحة، أخيراً وصلت إلى أعشاب السافانا الطويلة رميت نفسي بينها وأخذني نومٌ عميق.

في الصباح استيقظت لأجد نفسي على سريري، هكذا عدت من أدغال أفريقيا لكن الملل الذي يتركه غيابكَ لم تقتله تلك المغامرة.

 بمزيدٍ من الضجر قررت تصفح الفيس بوك، خطر ببالي أن أغير صورتي الشخصية فوضعت صورتي وأنا أرتدي ثياب التشجيع لمنتخب ألمانيا، فجأةً أضاءت الكرة الخضراء بجانب اسمكَ، باغتّني برسالةٍ منك على الشات تخبرني فيها أنك ستسعى للعب في صفوف المنتخب الألماني في المونديال القادم فقط لأجلي ولأجل تشجيعي المستميت لهذا المنتخب، ضحكت وكتبت لكَ بكل خبث أنه سيكون جيداً جداً إن قبلوا بكَ لتلمّ الكرات من أرضية الملعب، بعدها سمعت صوت ضحكتك يخرج من صندوق الرسائل على الشات، التفتّ لأنظر هل حقاً أنت هنا الآن، لكن الملل وحده كان يجلس مواجهاً لي يمد لي لسانه و يسخر من سذاجتي لمحاولتي ملء الفراغات في غيابكَ.
____________________________________________
** رنا الشيخ علي - كاتبة سورية.
* اللوحة من أعمال "بابلو بيكاسو". 

تم عمل هذا الموقع بواسطة