من الممكن أن تكون سعيداً وأهبلاً لأكثر الأسباب بساطة في العالم، يكفي أنني قبل أن أنام بالأمس وجدت فيلماً قد أضعته منذ زمن، لا أذكر شيئاً عن قصة الفيلم، ولا حتى إن كان جميلاً أم لا، فقط أتذكر أني شاهدته في إحدى الليالي منذ خمسة أو ستة أعوام، وأنه لم يكن ثمة أي صوت في الكوكب سوى صوت موسيقا الفيلم التي تعرض معها أمواج في وسط المحيط تعلو وتهبط، وصوت رجال يتحدثون باللغة الروسية، حينها وجدت ذلك في غاية الجمال، وحتى إني قد سجلت تلك الأصوات على هاتفي، وبقيت أنقلها من هاتف لآخر، حتى ضاعت.
حين اكتشفت اختفاءها عدت للمرة الألف كي أنكش (غوغل) بهيستيرية بحثاً عنه.
وأظن أن أحد العاملين في شركة البحث قد أحس بالشفقة علي أو أنه نفذ صبره مني، فبطريقة ما سحرية على ما أعتقد، وضع رابط الفيلم هكذا ببساطة أمامي، وكأنه يقول (خدي حمليه خلصينا) واليوم صباحاً كان التحميل قد اكتمل.
أعرف أن هذا ليس مهماً أبداً لكم لكنني أردت قوله لأنه جعلني سعيدةً أكثر من كل ما يمكنني تذكره، أكثر من نجاحي بالبكالوريا، أكثر من قرارات الترفع الإداري، أكثر من فوز ألمانيا بكأس العالم وحتى أكثر من لقائي الأول مع رجلٍ كنت أحبه.
ربما من الأفضل أن نمضي الحياة ونحن سعداء بأشيائنا الصغيرة، بدلاً من انتظار النجاحات الكبرى وتحقيق الأحلام والسفر لفرنسا ولقاء الرجال المخلصين والحصول على ثروة هائلة وما إلى ذلك.
أجر كومة قلوب معي أينما ذهبت، قلوب كثيرة صغيرة أربطها معاً بحبل واحد كمجموعة جراء ماتت أمهم وما زالوا ينبحون بحثاً عنها بينما تقودهم فتاة مختلة في طرقات المدينة.
أعتني بهم جيداً أطعمهم وأغطيهم وأعلمهم التهذيب واحترام الناس، وأتحمل رغباتهم المفاجئة بالركض أحياناً فأركض معهم وحبلهم يكاد يخلع يدي، لكن أقنع نفسي أنها التضحيات الضرورية لنزواتهم الصغيرة كي لا تكبر وتكرهني، ثم في الليل أغسلهم وأضمد ركباتهم المجروحة وأهدهد لهم كي يناموا بسلام.
لم أعرف كيف تكاثرت فجأة هذه القلوب حولي، وإن كنت أنا قد أنجبتها أم أنها نبتت هكذا لوحدها، ولماذا يأكل قلب الحزن أكثر من إخوته بينما قلب الحب يمرض كثيراً في الشتاء والصيف ويصاب بكل أنواع الحساسية والكدمات وقلب الفرح الأصغر لدي يثير جلبة كبيرة دائماً دون جدوى ويصرخ كالأطفال ويعض أصابعه أحياناً.
لم يعد يلحظني أحد في الجلسات العامة، دوماً أصل قبل الجميع أخبئ قلوبي تحت الطاولة وأنهرهم كي يجلسوا بهدوء وأقضي الوقت بالإيماء لهم أن اخرس أنت ونم أنت وأنت لا تضرب أخاك وأنت لا تتسلق قدمي أحد.
أفكر الآن، ماذا لو أفلتهم جميعاً أمام الباص الذي يعبرني يومياً دون أن يكترث لإشارتي له بالوقوف، ماذا لو تركته يدهسهم، وأجبرته بهذا على أن يراني ويقلني يومياً خوفاً من وحشيتي وجنوني، ماذا لو ذبحتهم جميعاً و رميت كل واحد منهم على سطح كل من أحبتي السابقين، أو وضعتهم تحت وسادة كل من صفعوهم يوماً بقصد أو دون قصد وماذا لو صرت فتاة وحيدة تجر هواء بيدها وتبكي وهي تمشي في الشارع وحدها ماذا؟ أنا كذلك على جميع الأحوال سأفعلها يوماً ما.
في الصباح لاشيء معقد كما العادة، في هذا الصباح تحديداً، ربما لأن النوم يمد غباشته على الشاشة، أو أن كل الخرق التي انمسح بها الليل كانت مبللة بالندى، وربما بالندم، لهذا مرآة الصباح ممشحة.
أبدو أجمل في المرآة التي تكذب ببعض التفاصيل، أبدو ألطف.
ليس شيئاً جيداً تقولينه لنفسك في الصباح.
- ياهبلة
صوتك أم صوتي الذي قال ذلك؟
أسقط عني حاجة كبيرة للتبرير ترافقني طيلة النهار، وأعيد لجيب النوم نصف ساعة إضافية، لا يستحق وضع المكياج صرفها على أي حال.
أنا وحقيبتي الفارغة إلا من ورقتين وقلم، ومفتاح البيت لإضافة بعض الرنين إلى هذا الفراغ، أنا وهاتفي، أنا والمنام الطويل الذي يحتل رأسي، نغادر المنزل بهدوء شديد، تنزل أمامي على الدرج خطواتك، لمساتك السريعة تتزحلق عن جسدي، ظهرك والقميص والقبة التي تتابع تقبيلك، نداءاتك و وداعاتك تقفز وتمضي مسرعة سألتني لم أستند دوماً للجدار حين أنزل؟
حسناً صرت تعرف الآن، لمَ لم تأخذ المنامات الحزينة معك؟ لم لا تعود لاسترجاعها على الأقل؟
لا حاجة للتبرير، أذكر نفسي، في الباص لن يدركوا أن لاشيء يخترقني كـ "طريق النحل" آه لا تعذبيني يا فيروز، رأسي يترنح وعيناي مغمضتان وقلبي يغني "إذا رح تهجرني حبيبي، و رح تنساني ياحبيبي، ضل تذكرني وتذكر."
. آه لو أعرف فقط كيف بالسكوت أكسّر الحنين الطريق قصير ولا يكفي لأسمع البقية يافيروز لا تبدأي الآن بأغنية أخرى
سوف يصعب علي بين الركاب المتدافعين أن أغني "تركوا الرسايل على بابُن تركوا ورق الرسايل".
كنت في أيام ماضية أحب المشي وحدي، والأغاني تروح وتجيء في البال كما تشاء، خمسٌ وعشرون دقيقة للطريق، خمس أغنيات، أفكارٌ كثيرة و وقفات لتفقد شعري في مرايا السيارات، لم يعد هذا ممكناً، لم أعد أطيق السير وحيدة في أي مكان، أخاف أن أمشي فأبدو كالهاربين، صرت أحتمل أي رفيق وأي ازدحام في الباص، فقط كل لا أبقى وحدي.
لو أنهم ينسون مفاتيح الجامعة اليوم، لو أني أستطيع الجلوس على الرصيف لمراقبة العابرين، لو أني أتخلص من عادة التحديق بهم، لو أنك لا تزال هنا، لو أننا نذهب معاً إلى فيلم "السبات الشتوي"، ونبقى هناك إلى الأبد.
علي أن أمشي، المسافة القصيرة بين باب الجامعة وكلية الهندسة، طويلة جدا، أريد دراجة مثل التي تقودها "هانا" في فيلم القارئ، دون أن ينتهي الفيلم بحزن كثير، أود لو أصادف في الطريق "قلعة هاول"، فأدخلها وأختفي.
ياللسخافة، تحويل كل شيء إلى سينما ليس مسلياً دائماً، المسلي هو هذه الطائرة التي مرت من فوقنا الآن، صوتها مرعب وجميل، لو أنك ترى وجوه الناس الآن، السائرين بقربي، أو المختبئين وراء أشجار صغيرة و جدران شفافة، تخيل حتى في الساعة الثامنة صباحاً، وحتى في الحرب، المقاعد الخشبية كلها محجوزة للعشاق، جيدٌ أنك رحلت، جيد جداً حقيقةً لا أحب دور العاشقات أبدا، أحب دور البحث عن ابنة ضائعة، أحب قسوة جيوفانا في فيلم المرأة المجهولة، قسوة الحنان المتحجر عميقاً في القلب، تدريب الروح على التحمل، تدريب الجسد على الألم، حمل الهواجس كأنها تذكار، فتح فوهة القلب على الأطفال الغرباء، إدمان التواريخ.
الآن وصلت، صباح الخير.
صباح الخير أيها العالم الذي يقضي أيامه راكضاً، من الحفلات إلى الجنازات.
صباح الخير يا مرتدي البيجامات، يا ملوك الوقت المهدور على البؤس.
صباح الخير أيها الرجال الستينيون، المدخنون العارفون بكل شيء صباح الشغف الذي يكرج من ألسنتكم إلى الهواء ثم يرقد، دون اصطياد.
صباح الخير يا كراسي المقاهي.
يا خلف الشبابيك.
ياقماشات المظلات وأنت تتموضعين في الصور كموديل وأنت تدورين في أذهاننا كبطاريات للرومانسية.
صباح الخير أيتها الأخشاب التي بالإمكان قطعها لأعبر عليها البحر او المحيط.
صباح الخير أيتها الكراهية التي تلعب بنا كرة القدم.
أيها التاريخ المكتوب بالسم والزيت والنار.
صباح اللا بلاد وهي تطفو كبقعة دم فوق الخرائط.
صباح الخير يا أول العام.
يا فم العام المتخم بلقيمات الأحلام الساخرة من خذلانك المؤجل.
صباح الخير يا أرجل العام الرخوة، احذر وأنت تحبو، أن تؤلم ركبتيك كسرات القلوب والجفون.
صباح الخير يا أيدي العام التي تمرنت على التلويح، فصفعت السواحل، صباح أصابعك وهي تبقع الأرض ببصمة دامية.
صباح الخير يا صدر العام، كل النساء يحببن الرجال ذوي الصدور الواسعة، صباح الخير يا طابور الانتظار الطويل لعناق واحد، وإن كان سريعاً.
صباح الخير يا أذنيه، اسمعي الشتائم، لا مشكلة.
صباح الخير يا عينيه، راقبينا نخون كل ما يمكن خيانته، خلف الستائر أو أمامها.
صباح الخير يا أنفه يا ظهره يا مؤخرته.
كلكم ستعبثون بنا، و بعدها سنقبل رأسكم الشائب أهلا إذاً بالعبث.
_________________________________________________
** مروة ملحم - كاتبة سورية.
* الصورة من الانترنت