الزّمن حاصل ضرب المفاصل بأطراف الفؤوس،
والمسافة توزيع الرؤوس على الشظايا...
الضوء الذي تشرنق بالحلكة مسبِتاً في جحرٍ من بغيٍ وثير؛
كالوطن الذي هرّس أبناءه خوفاً من خيانة الخطوات الطارقة قبوَه...
الجلاّدون قطعان ضباعٍ مهزومةٌ أبداً، بالتي هي أنكى
لا تملكُ هروباً من تبعيةٍ عرجاء،
ولا تعي أكفها عند الزمجرة قيمة الدماء على التراب...
وكأن الوطن حقلٌ ملأتْه الفزّاعاتُ الميتة
وهذي الأيادي الممتدّة أسراب جراد...
يجدلون ألسنتنا جميعاً كضفيرةٍ من صمتٍ مطبق،
يغرقون ظلالنا لترْعوي المرايا قبل أن ننام...
سلام هذا العالم معقودٌ بساقِ يمامةٍ تائهةٍ،
وغصنِ زيتونةٍ لا تعي ذبولها منذ عصر السقوط،
وهذي الأيام يرقةٌ عالقةٌ بشباك عنكبوتٍ ينتظر ازدهارها...
والليل الذي يفترش السماء،
متحفظاً على بوصلة الشمس كبومةٍ عمياء؛
كم احتال ليحصد امتنان التائهين وصلوات النجوم...
الطيور المُهاجرة هي الوحيدة التي تخاف أن تقع الأرض على السماء؛
لأنها تعي نسبية الفضاء...
والقمر فزّاعة الأرض المدماةِ نصبتْها أمام الكون والتحفتْ بالخراب...
وذاك الشهيد يرتق بدمه تراب الوطن النازف
الوطن ذاك السراب الذي لا يفنى،
وظلٌّ إن تغوّلَ يتلاشى...
والشهيد معولٌ يقتات من شقوق التراب ليتنفس،
يبحثُ عن وجهه المبعثر في السراب...
به رغبة الموت في الخلود؛
كنه الحياة نقيضه؛ وبها يكون...
مثل صخرةٍ صمّاء لفظها بركان،
صمته مترعٌ بين أكوام اليباب
ولا يهتدي نوله لهدير التراب...
مستقيلاً من هذا الزمان يطوي خريطةً للوطن
ويرسم بحبرٍ أخرسَ تضاريس غدٍ سامقٍ بلا حدود...
أَمسه المختبئ خلف شجرةٍ ملعونةٍ،
لا يفقه حكمة العماء...
وطيفه الباحث عن مشعلٍ؛
كلما احتطب من جذعٍ سالت جثامين العتمة
شعاع حكمةٍ عمياء...
ينكأ جبهة الليلُ المتّكِئ في برجه
ناسياً ملامحه الناتئة بملقطِ مدفأةٍ مهدورة الرماد
وينشبُ بجوفه أظافر النور حتى تنزّ الحلكة...
يبني قلاع أفكاره حجراً حجراً بلا سقفٍ،
ويعتقُ الدّماء في عين الحكمة لتثمل رؤاه...
حوائط عزلته هي آفة الوقاية؛ والقبر محراب الخلود
وأولئك المتفيؤون بجداره لا يفقهون سوى لغة الأنقاض...
أنقاض وطنٍ يرْفل في دم أبنائه
لم يكن ليأْخذ منّا شهداء،
مالمْ نغذِّه بالخيانة الكامنة فينا...
وفي الشعاع الأبيض من الوهم
شهيد يرقص على سور مقبرة ويغني
لم أتعثر بخاتمٍ وما دخلتُ مغارةً
كان وطني منذ البدء في سحابةٍ
كلما جفتْ وهبتها غيضاً من دموعي
أنا طُعم المجد أُسند سماء الوطن
لا التراب مزْهرٌ بغير دمي
ولا الرّايات تبقى بعد أشلائي
أنا زاجلٌ مني إليّ أبلغني،
كالظلّ أخرج من جسدي لأدُلَّ روحي عليّ...
شهيدٌ في غيابة المجد مبتسماً يمدّ يده المبُتورة للوطن،
حتى لكأنّ تلك اليد تتساءل لمن تنتمي، ومن منهما لا يزال على قيْد الحياة.
________________________________
**عزيز حـزيزي - شاعر يمني.
* اللوحة "Saturn Devouring His Son" للفنان "Francisco de Goya".