من بين فكيّ النهار أسرق
بعض الساعات
أكون فيها حاجباً على باب الجائعين
أو عجوزاً تمشي حافية
تُطعم حمام الكنيسة
أو ملكاً عادل يوقف الحروب والنزاعات
من بين أحضان الثانية أهرب
حتى أكون بائعاً جوالاً
أو صبياً يكنس الغبار في حانوت ساعات
ذلك المكان الذي أهرب إليه
كلّ الملوك فيه طيبون حكيمون
ونساؤه كلّهن من ياقوت
لا حرس ولا قضاة ولا جاريات
حلوة عيون الأطفال حيث أهرب
حلوة كالنار في صحراء عطش
وأصوات الرجال شرقية موزونة
كصقر لفّ الأرض بمهجتها افترش
كم من ليلة سأمشي وحدي
حتى أراقب غياب الحمقى من ساحات القتال
كم من ليلة سأبقى اصطف بجانب الجياد والغربان
أيها التعس في حياته ومماته
طريقك كليّلٍ يُولد من عدم
يقتلك الحنين لثدي أمك
وأغانيك الوردية
تطاردني عيون أمي
كصبي بائس
شفاهه زرقاء
وحيداً ضائعاً في زقاق بجانب مخيمات الايواء
ثيابه مبتلة بالرصاص والنزق
عيونه مجوفة وحيدة
وقدماه تعبران إلى كنف الله
يا الله
من أجل هذا الضائع المنسي في زقاق مليئ بالثكالى
صوت أمي كمئذنة في حلب
تحفها الرمال والاهات
كعذراء من شمع
أيها الحلم القادم من الجنوب
خذني الى امي
كلمح الملح في البحر
كمقتول إلى قبره
كنخيل واحة الأبرياء في منصة الشنق
مبعثرة حروف الذاكرة
لا جدوى لها
تلتوي كالأمل في دهليز المستقبل
خادعة طاهرة ماكرة
حروفي كتلك الساحرة السوداء
تطير بمكنسة
وتعلل ضاحكة ساخرة
يا ويح نفسك
اتكتب ؟ لمن ؟
لمن ؟
لمن هم مثلي
مضاجعهم باردة كأفعى
للجائعين الباقين
لمن يجدون في المجون متعة
لمن يبكون من صوت المؤذن
ولا يصلون
ويقبلون المصحف كل صباح
ولا يقرأون
للمارة المتعبين من ضجر السفر
للذباب
لأرملة من صلب صلاح الدين
للرياح المغرورة
للعيون العسلية المطفئة كسراج أخمده المطر
للقابعين بين جدران من فرح و ماضٍ أحمر
لذلك الغائب
إن قدس الجمال في زنزاته
إن روادته أطياف الخيال
لشاعر في بلاط الحكم نطق النور فاطفئوه في حانته
تسلمت جائزة
فزت بها عن صورة لطفل يتسول معطفاً و رغيف
حينها قفزت كالكبار المهرة أجوب الزوايا المناسبة لألتقط أفضل صورة للطفل العفيف
لم يراني فقد كانت عيونه تزحف نحو المارة
يمد كفه العارية و من حسن حظي أنهم تجاهلوه
أفرغت حزناً كبيراً في قلوب الناظرين
وقف الحضور و صفقوا
منهم من بكى و تعهد بوضع الصورة على حائط ذهبي
أصبح الطفل غلافاً لمعظم الصحف
نادى به كل مصارع للتيارات و الاحزاب
أسقطنا الحكومة
ودمجنا ست وزرات و أفرغنا جيوب الأغنياء
ملئنا السجون بكبار المرتشين و القتلة
فتحنا البحار و القلاع و الحصون
كتبنا دستوراً وبصقنا فيه مادة قانونية
تحرم تسول المعاطف
وتبيح تسول الجوائز
ولم يرتدع ذلك الطفل عن جريمته
فاستضفناه في سجن قضبانه من فضة
سيدي القاضي
لقد خان هذا الطفل قيم الحضارة
بعد أن كان رمزاً لنا أغرته خطاياه و عاد يتسول
يمد يده بكل وقاحة يطلب مايقيه البرد
أزاح القاضي تمثال الحاكم الجديد من امامه
ووقف غاضباً
ماذا تريد ايها الطفل
ألا يكفيك أن صورتك معلقة في قصر الحاكم
خذ الحاكم وقصره يا سيدي القاضي وأعطني معطفاً
في المقبرة لا وجود للسياح والسفراء
________________________________
** بحر شاهين - كاتب سوري
* الصورة من الانترنت