أمامها فقط، ومن الإنصاف ذكر الحزن قبلها، واعتباره خطوة أخرى ليكون لقاء، قد لا يكون للوقت دوره في ما حصل، إلا أن الأيام جعلت هذا الحزن جميلاً، جعلته قريباً، كخيال في مرآة، كظل على الطريق، كأغنية أمهات في مسامع الرُضع.
والخوف أيضاً، كان لا بد من مخاوفنا لنلتقي، تلك التي نعتني بها كأننا مزارعين مهرة، نجيد تقليم أغصان الخوف، تشذيبه ليصبح لائقاً كالحزن، بنا، تقول أنا قبيحة، وأقول أنا كذلك، نُسرف في شرح مخاوفنا فتطال أغصانها أكثر، ثم وعلى غفلة من الحزن، تبتسم، ابتسم، يسقط جذع المخاوف دفعة واحدة، كشجر مسّه تصحر، أو خريف دائم.
وكنا قبل هذا مجرد نصبتي حزن، في مهب العواصف، نورق ونتساقط حزناً، نزهر ونذبل، ونضحك ونضيع، لا صدى في ما نفعل، مجرد سراب أصوات تتهادى من بعيد، ولا وصول، اليوم أقول لها بأنني أصبح أخضرَ كأنني زيتون، وتقول وأنا كذلك خضراء كمواويلك وزيتونك والحناء الطري، يجف النهر هنا، تُصبح الدموع قُبل، وأحيانا تصبح جوقةً غجرية، حين نستسلم لأحلامنا الصغيرة، مع الغيتار المتشرد في شوارع برشلونة، أو نوارس الموانئ في صقلية، صقلية التي تحتوي كلماتنا ونظراتنا إلى البعيد، حلمنا الأخير بأن ننال ما لنا من راحة وحلم على رمل إيطالي أو شوارع فرنسية، حقنا بأن نراجع توهة في تركيبة هذا الكون، كأن نسأل كيف رُمينا على تراب حمص وغبار سراقب، أو لماذا لم تأكلنا النوارس حين كنا ملتصقين في غفلة رمال جزر المتوسط؟
اليوم أسمع طرق النوارس، أراها كما أرى نصبة حب تنمو، في فمها صغار سمك، تراقب صنع القهوة وارتجافي، لا حمائم لنقل الرسائل بيننا، هذا الذي يحدث ليس تقليدياً مقيتاً، هذا الحب رحلة بحر، نبحر كل يوم نحوها، فقط.
حين الوصول، سنركض في شوارعها كأبناء "باريا"، صغار الأفلام التي نحب، نحن أبناء السفن المتهادية والتي لا تعرف كيف ترسو، نحن قصائد نيرودا ورامبو، مركبه السكران الذي ضمن وصولاً، كأن تثمر فرحاً، نصبة الحزن هذه.
كان واحدنا في الآخر، دون أن يدري طوال هذه السنوات، نلتصق ببعضنا كالملح، هذا الذي يفوق كل شيء التصاقاً بالمرء، الملح ما يبقى من كل شيء، الغربلة تبقي ملح الشيء، حين قمت بغربلة ذكرياتي وجدتكِ، وحدكِ، كل هذه التفاصيل بكِ، الأسماء، والأشياء وأرقام السيارات والهواتف، حتى الملح نفسه يصبح تفصيلاً أخر يعلق في القلب، مخزن الملح المعد لك، منك.
في أغانينا المشتركة، يصبح طيفك جواب كل تساؤل، كل حيرة، هل حقا تقاطت الدروب أم أنها مجرد وعكة فكر عابرة، هل حقاً كل هذا التشابه بيننا، أسأل القلب ويجيب "هذا هو المقسوم"، فيتبدد طيفك ندف ثلج تسقط في القلب، في القلب تماماً.
"مرافئ صقلية ضجرة
هاجرتها النوارس والأصداف
نورس يحط على نافذتك كل يوم
ليقرأ الفنجان
أو تأكله الخيبة
كمرفأ صقلي يتيم
دروب روما المضاءة
خيبات من الظلام
متباعدة
بانتظام
كان ها هنا خطواتٍ
ضوءً وحياة
وفي الظلام قلبي
وملح خيبة
نقر عود كئيب
وصوت متهادٍ
كأنه كل العراق
كأنه كل هذا القلب
قلب النورس
الذي تأكله الخيبة كل يوم
كما يقول الفنجان"
هل هذا شعر؟
لست شاعراً، ولا أحب الشعراء، تقولين بأني "مظفرك" وأفرح كمن ربح كل شيء دفعة واحدة، ليس لأنه شاعر، وليس لأنه عظيم، لأنني ببساطة أفهم الشعر معه كمن يحب، لا اكراه في الحب، لا اكراه في الشعر، ومثله أحني نصف أقدام الكوابيس يقلبي، ونورس حزين مرة أخرى على شباكنا يبكي، وحزن مثل العراق، كل العراق والحب.!
______________________________
** محمد حاج حسين - كاتب سوري
* الصورة من الانترنت