21 Jan
21Jan

ماذا كانوا يقصدون بالموت يا أبي؟

ولماذا كانت أمي تبكي دائماً؟

ولمَ كانت سوداء هكذا؟

هل نسيتَ أن تسرق لها الأبيض!

من زهورِ حديقتنا الصغيرة

هل خرجتَ لتبحث عن الزهور في بلاد العجائب؟

ثم ضللتَ طريقك إلى المنزل

هل سرقك الأرنب ووضعك في قبعته؟

ثم طرتَ من قبعته حمامةً نحو السماء

هكذا كانت تقول أمي

وكنتُ أصدقها

لذلك كرهتُ جميع الأرانب

وكلّما نظرت إلى الحمام

بكيت..

ماذا كانوا يقصدون بالموت يا أبي؟

ولم عليه أن يكون سخيفاً هكذا

وهل مازال ذلك الحرق الصغير

على معصمك يؤلم

كيف يبدو وجهك المتعب الآن

هل مازالت رائحتك كالعنب؟

أنا كبرت

صار عمري الكثير من الحمامات الضائعة

وعندي قلب صغير

خائف ومرتبك

أنا خائفةٌ يا أبي

وكلّما نظرت إلى البحر

أشعر بوخز شديد في قلبي

ودون أن أفهم

أعود خطوةً للخلف

أتكور على نفسي

كأنّني طفلة ضائعة

طفلة وحيدة

في عالمٍ كبير

أنا خائفة يا أبي

وكلّما أمسك أحدهم يدي

أهرب، أهرب فقط دون وجهة

ماذا كانوا يقصدون بالموت يا أبي

ولماذا لم أعد قادرة

على تحسس نبض قلبي

هل تُراني مت أيضاً

ولكن لماذا أبكي طويلاً

دون سبب

ولماذا كلّما نظرت إلى السماء

طارت كلّ الحمامات بعيداً من قلبي..

…………………

لقد قبضت على قمر أزرق

هل يسعدك أن تراه

هكذا مشى على زرقة قلبه

كنبوءة

ثم ترجل بعدها

عن مجاز خيبته

فارساً مهزوماً

كان رجلاً حزيناً دون سبب

لم يكن يعنيه تغير الفصول من حوله

لم تكن تعنيه مسائل الحياة العالقة

بين حرب أو سلم

بين حب أو كراهية

لا الشوق ولا الرغبة

حيادي النزعة

لا يَستفز ركود حياته شيء

كان رجلاً حزيناً

ولكنه لسبب ما

لا يزال كلّما مر بجانبه أحد

باغته قائلاً

لقد قبضت على قمر أزرق

هل تحب ان تراه

لو فقط تراه

هنا، هنا يكبر في قلبي

يكبر هباءً..

كان رجلاً حزيناً

يحشو فمه كلّ يوم بطلقات كثيرة

رغم أن طلقةً واحدة كانت تكفي

لينتهي كلّ هذا

لكنه كان يحب أن يموت مراتٍ كثيرة

ولأنه لم يمت أبداً

صار فقط رجلاً حزيناً..

....................

أبحث عن غرفة للإيجار

غرفة صغيرة

في مكان بعيد جداً

عن كلّ شيء

غرفة صغيرة فقط

بنافذة وحيدة

وسريرٍ ضئيل الحجم

حيث لا أصدقاء

ولا طرقَ مفاجئ على الباب

وقت الظهيرة

وهناك

سأنصب وحدتي

رايةً بيضاء

وكذئبٍ شرس

سأمنع أي أحد من الاقتراب

غرفة صغيرة

بلا ضوء

ولا ضجيج يستدعي الصداع

كفيلةٌ بدفن هواجسي

كمقابر صغيرة أرتبها على الرفوف

وأمسح عنها كلّ يوم غبار الندم

غرفة صغيرة

بحجم راحة اليد

تغلق أصابعها عليّ كفراشة

لينام فيها الحزن بهدوء

غرفة صغيرة بعيدة

حيث لأقوض الحقيقة سيلزمني

صنع فنجانين من القهوة كلّ صباح

وافتعال حديث سخيف

عن الطقس السيء في الخارج

عن طعم عينيك أول الصبح

وعن الوحدة

الوحدة التي تلسع قدمي

كلّما قطعت الغرفة على رؤوس أصابعي خوفاً

ولأقوض الوهم

سأغرس وتداً في نخاع هذا الفراغ كلّه

وأما لأقوض الحب

سأفتح باب الغرفة على مصراعيها

وأستقبل الغياب

كلّ ليلة بصدر رحب

غرفة صغيرة فقط

هذا ما أريده الآن من العالم

لأربي فيها القسوة كحيوان أليف

لتنتهي الأيام ببطء شديد

وليموت قلبي دون سبب يذكر.

_________________________
** يارا باشا -كاتبة سورية
* الصورة من فيلم (stalker) لأندري تاركوفسكي  

تم عمل هذا الموقع بواسطة