الإبحار بين الجذوع والجذور كقرصانٍ بقدمٍ خشبية، وتجاهل الأصل كسمكة لا ذاكرة لها هو إبحارٌ فاشلٌ لامحالة، لا يصل براً، مراسيه محطاتٌ مؤقتة.
لا سلام فيها، عدٌّ روتينيٌّ مُضجِرٌ لطرقاتٍ أخرى لاشك ستعزّيك بألوانٍ أقلّ وهجاً، وقوارب مزيّنةٍ بزيف، الفرق أنكلّم تطلبها يوماً.
الرغبة فقط هي ما يصنع الفرق كلّه، مضلَّلةً بتيهٍ مزوّقٍ مرةً، ومُنارةً بحشد أحكامٍ مرتّبة، مقنعة.. وعادية مراتٍ أُخَر
والشعور الطافي فوقها كشبحٍ لا تراه إلا في الرؤى وأضغاث الأحلام.
يقف راقصاً مُختالاً على سلّم الخيارات الحيّة منها والميتة، متجاهلاً عينك الرقيبة العاجزة ونظرات غيظها.
بالأمس كنتُ وقتاً لطيفاً، يسيل حلواً، ويعبر الشوارع برقّة.. ثم أضحيتُ حجراً أغْبَراً، ينام حيث يرتاح ويحصي النجوم ببلاهة.
المهم أني لم أكن رغبةً.. بل استحلتُ اليوم ظلّاً أعرجاً يحصي النجوم ببلاهة.. ببلاهةٍ وأمل.
أتمسّك بالشهب اللامعة المارقة، متمنياً عليها البقاء، ناسياً أن ما يبرقُ بشدّة مصيره الانطفاءُ السريعُ لا محالة.. وأن عليّ أن أبحث جوّايَ عن شمعة.. شمعة جديدة أطرد بها العمى وألاحق بها المجهول، واثقاً.
أخوض ما يفتح عليّ موج الغد من تجارب، وأرمي فتات قلبي علامات أمانٍ.. مخافة أن تضحي الطرقات موحشةً، وأن أنسى عنوان البيت.
البوصلات كثيرة، والشرق عندك هو غرب غيرك
كيف لي أن أجد بوصلةً زرقاء..
الأزرق لا يكذب.
هذه الأمواج كلّها تبدو مألوفة.. مألوفةً جداً كأني شهٍدتها في لوحة انطباعيةٍ ما.. وغريبةً لأن التجربة الحيّة لا تشبه الصور الذهنية المتوقعة في شيء.
هكذا تتعلم ألا تعمّم التجربة، فتهيم بلا اسمٍ ولا هوية، ميمماً بُقَعاً لا تعرفها ولا تعرفك، وكأنك جزء من عرض "برودواي" ما.
لا تنتظرُ الدوائر أن تكتمل ولا الخط حتى يرسم نفسه.. ولا تهتمُّ إلى ما ستؤول إليه قوالبها النهائية
لا يهمُّ إذا ما كنت ستصبح محطّ اهتمامٍ أو سخرية.. المهم أن تكون أصيلاً بحقّ، أن تكون إنساناً.. لا رفيقاً ولا أخاً أو غيره.. حتى تحار بأمرك الأحكام الجاهزة والساعات والبوصلات، فتركض أمامها هازئاً.
أن تخلُص إلى تركيب رُقْيةٍ لكومنك.. فتقود الدّفة العمياء بعيداً عن جهات الخوف، وعواصف البارحة المتنكّرة حاضراً، فلا تفردَ شراع السكنى إلا حيث يشاء الغد أن يعلنك منتصراً بلا رُقَعٍ ولا أسمال.
وبسلامٍ تغني لضعفك الوحشي ترنيمة، فينام.
____________________
** زين صالح - كاتب سوري
* اللوحة (Entrance to the port of honfleur – Claude Monet1870)