17 Mar
17Mar

كالبرد في وضح الشمس تبدو ذاكرتي عن كل الأماكن التي نشأت بها صغيراً اليوم، حاولت تذكر بيتنا في تلك المدينة التي تناساها الله عمداً عندما وزع رحمته على العالمين؛ لا أذكر منه إلا أنني غفوت وتوأمي صغاراً على فراش واحد بملاءة سوداء، على أرض غرفة المعيشة التي كانت ذاتها غرفة الضيوف وغرفة الطعام وغرفة المكتبة وكل الغرف الأخرى التي حلم أهلي بامتلاكها يوماً، ليس لأن البيت كان صغيراً، كنا فقراء، نعم، لكن الاشتراكية أثمرت منزلاً على العظم بأربع غرفٍ في الطابق الخامس بعد عقدين من الدفعات المنتظمة، إلا أن ما دفعنا لحشر حياتنا في غرفةٍ واحدةٍ كان عدم قدرة الاشتراكية على دفع فواتير تدفئة غرف منزلنا الأربعة في كل شتاء، تماماً كما لم تستطع توفير إكساءٍ خارجي لأي من أبنية حينا، أو اللحم على مائدتنا كلما رغبنا بوجوده مثلاً.

أشعر بخطبٍ في صور ماضيّ كفجوةٍ تتوسع كلما حاولت أكثر. يحدثني الأصدقاء عن ظاهرةٍ قوامها تلاشٍ للذاكرة المنحوتة على أرض الوطن، ويحسدونني على تذكر رائحة الخبز المحمص على مدفأة المازوت بعدما كادوا ينسون تلك المدفأة بكل الأمان الذي وفرته بينما هطل الثلج في الخارج إذ كانوا أطفالا، لكنني كلما ناجيت نفسي اكتشفت أنني أقترب من نسيان كل ما أسعدني وكل ما أبكاني في طفولتي الغريبة تلك؛ لا أعرف أهو رعبٌ ذاك النسيان أم هي مأساة يمر بها الجميع، كامتحان الثانوية العامة مثلاً، أو كالاعتماد على الـ"ميكرو" وسيلةً أساسيةً للمواصلات في دمشق، وإن لم يكن صالحاً للاستخدام البشري يوماً، لكنه الخيار الوحيد للجميع.

أحاول تذكر كل التفاصيل التي كونتني.

أتذكر كيف كنا نجلب كل ما استطعنا جلبه في كل جمعة إلى غرفة المعيشة ذاتها، نحولها إلى غرفة سوقٍ في ذاك الصباح، نصنع عملتنا من قصاصات الورق المقصوصة ببدائيةٍ بمسطرة الأخ الأكبر، ثم نتاجر لساعات ببضائعنا المسطو عليها من المنزل، نحتكر وننشئ عرضنا وطلبنا لكل الصحون والجوارب والمخد والألعاب التي تاجرنا بها، ثم نفلس فنستدين من أخينا الأكبر الذي لم يخسر -بشكل غريبٍ- يوماً في سوقنا هذا. أتذكر كيف بكينا في كل مرةٍ أعلنت فيها الوالدة انتهاء "دوامنا" بدعوى التجهيز لزيارة منزل الجد الجميل. أتذكر سكاكره التي استخدمها لإسكاتنا كلما وصلنا باكين إلى هناك. أتذكر ادعاء الأخ بألا علاقة له بدموعنا، رغم إدراك الجميع أننا نبكي خسائرنا وحسب.

أتذكر كيف كنت أستيقظ كل يومٍ في الخامسة صباحاً، أتأكد أن الجميع نائم، ثم أذهب إلى التلفاز، أبحث عن التلفزيون الروماني الذي كان يبث إعلانات دور الهوى بعد منتصف الليل وحتى الصباح الباكر. أذكر المسلسلات الرومانية التي كنت أشاهدها ريثما تظهر تلك الإعلانات كل ربع ساعة. أذكر بعضاً من القصص التي افترضت سردها لما أرى؛ الموظفة المتزوجة التي تحب مديرها، والطفل الذي دهسته السيارة لأنه لم يكن مجتهداً بما فيه الكفاية ليرضى الله عنه، والكثير من القصص الأخرى التي ركبتها على ما كنت أرى بينما انتظرت تلك الإعلانات. أذكر كيف استيقظت والدتي ذات صباحٍ، وحاولت استنتاج سببٍ لاستيقاظي الباكر ذاك، ثم أدركت ما أفعل في فترة الإعلانات؛ كنت في السادسة من العمر حينها، ولم أكن أعرف عن العري أكثر من أنه "عيب"، وعلى هذا الأساس، انتهى الأمر بفصل الكهرباء عن التلفاز في كل ليلة من مكان لا أستطيع الوصول إليه نظراً لطولي الشاهق حينها.

أتذكر البرد، والذهاب في المطر مشياً إلى المدرسة، ودموع أمي عندما تقارب اليأس من لفت انتباهنا لإنجاز واجباتنا المنزلية، هكذا تكتب القاف، كلا، ليس بهذا الشكل، ركز معي، هكذا، أرجوك أن تركز معي، اكتب القاف، ليس عليك أن تحفظ رسمها في هذه اللحظة، اتبع الخطوط وحسب، أرجوك، علي الذهاب إلى الصيدلية بعد ساعةٍ ولم نقترب حتى من إنجاز واجباتك، أرجوك، لم أطبخ لوالدك بعد، اتبع الخطوط، علي أن أجهز له شيئاً ريثما يعود من عمله. لم أكن أدرك ما يمران به سعياً لتعليمي كيف تكتب القاف، ولم أكن أعرف أن ثمن تعليمي الأبجدية كان عشرات الساعات من التوتر والإرهاق والخوف من تراكم ضغوط الحياة إذ يتفرغان لضغطٍ واحدٍ دوناً عن كل وحوش البالغين الأخرى التي يسمونها مسؤولياتٍ وواجباتٍ تجاه النفس والأسرة.

لكنني أتذكر إعجابي بفرشاة شعر أبي، وأتذكر إعجاب أختي بحقيبة والدتي، وأتذكر كم مرةً لبست نظارات الوالد وادعيت كوني إياه، وأتذكر النظرة على وجه والدتي إذ طلست الأخت الصغيرة وجهها بقلم حمرتها، وحملت حقيبتها، وذهبت إليها ناطقةً بإحدى أربع كلماتٍ كانت قد تعلمتها حينذاك؛ "ماما". أتذكر الكلمات الأربع؛ رمان، بابا، ماما، دادا، دلالةً على الأخ الكيبر، حمادة، وليس دلالةً على الضرب أو خلافه. لم يضربونا صغاراً، كان الشعور بالذنب سلاحهم الأول في الحياة، وكم كنا صغاراً لندرك كم حاولوا إشعارنا بالذنب لكننا لم نأبه إلا باكتشاف العلاقة بين لساننا ووجنتينا عند كل وجبة وفي كل يوم.

أين الفجوة إذاً؟ الفجوة تقع كلما تذكرت بؤرة الخراء التي سميناها حينا ذات يومٍ، ولم أستطع إيجاد ذكرىً سيئةٍ واحدةٍ في طفولتي مهما حاولت. حتى عزاء جدي في ذاك المكان، أو "لفلوفة" الزبدة والسكر التي كانت ملجأ الأهل لإشباعي في آخر الشهر، أو الطريق الموحل أبداً إلى المدرسة، أو كل الشتائم التي سمعناها أثناء تفاعلنا من المحيط من وإلى المدرسة كل يوم؛ كلها تبدو اليوم ذكرياتٍ جميلةً، لا شيء منها يزعجني، ولا شيء منها يدفعني إلى البكاء أو الندم.

أحمل هاتفاً ذكياً اليوم، أعيش في منزلي الخاص وحيداً، لي السلطة المطلقة على كل شؤون حياتي، دخلي الخاص، وعملي الخاص، ولي أن أسهر حتى الصباح دون امتعاض أحدٍ من تأخري في العودة إلى المنزل.

لكنني لست سعيداً كما كنت حينها، لا لست سعيداً، ولا أعرف إذا ما سأصل تلك السعادة يوماً، أعرف أني راضٍ عن كل ما أفعل، لكنني لست بتلك السعادة، ولا أرجح أنني سأكون.
__________________________________________________________
** حازم رعد - كاتب سوري
* اللوحة للفنان الفرنسي "جان فرانسوا ميليت".

تم عمل هذا الموقع بواسطة