تلك النظرة التي تعتلي وجه من تُحدثه عندما يسألك مستفسراً عن سبب تصرفك بهذا الشكل أو ذاك، لتجيبه: - لا أعلم، لدي إحساس قوي أن هذه هي الطريقة الصحيحة للتعامل مع الموضوع.
يمكن صياغة هذه الجملة بطريقة أخرى: - لدي حدس معين. حيث أنه من المعتاد أن يترافق الحدس بنظرات الآخرين التي تقول (يا للمسكين، إنه لا يعرف ما الذي يفعله!) الحاسة السادسة كانت معي منذ البداية وبمرور السنوات وثبات فعاليتها تعلمتُ أن أثق بها واستخدمها كلما أتيحت لي الفرصة.
وكمن تعلّم ما الغرض من القلم وكيف يمسكه بالطريقة الصحيحة فأصبح يستخدمه بشكل اعتيادي للكتابة ولم يخطر على باله أن يسأل يوماً ما هو القلم؟
لم أفكر يوماً في ماهية الحدس أو آلية عمله، ربما لأن أكوام الورق التي تحمل نصوصاً غير مكتملة لأفكارٍ بدت لي حين كتابتها جديرة بالمتابعة والبحث، تتكاثرُ يومياً في درجي لدرجة أنها أصبحت تعيق حركته لتخيفني وتذكرني بأنه كثيراً ما نفقد قناعتنا بالأشياء في طريقنا إلى اكتشافها والتعمق فيها وأنا غير مستعدة للتخلي عن الحدس في حياتي.
لكن لفترة طويلة أصابتني الفكرة برومنسيتها واستسلمت لإغراءات الأسئلة وقررت أن أضع الحذر في درج الأوراق منتهية الصلاحية وأمضي في رحلة استكشافية قد أنهيها في أي لحظة لأن الحدس فقد قدرته على إقناعي وواسيت نفسي بأنني في الحالتين سأختتم هذه الرحلة بنص جيد. بدأت الرحلة مع مؤلفات الفلاسفة والأدباء وحتى المختصين في التنمية البشرية حول الموضوع.
وهنا يمكن وضع ثلاثة خطوط عريضة تحدد الاتجاه الذي اتخذه المؤلفون في تفسيرهم للحدس: - الحدس هو صوت الله فينا. - الحدس هو الصوت الذي تصدره خبراتنا وتجاربنا السابقة عندما يعود الماضي ليتجسد بجزئياته وعِبَره في حاضرنا. - الحدس هو الاتجاهين السابقين مجتمعين.
وتحت هذه الخطوط العريضة تندرج بعض الاختلافات الفردية الخاصة بكل مؤلف، فمثلاً قرأت بحثاً لمدربة في التنمية البشرية تختتمه بمجموعة من الإرشادات والتعليمات لتقوية هذه الحاسة فتنصحك أن تخصص يومياً ما لا يقل عن عشرين دقيقة للاسترخاء وتجريد العقل من أفكاره وإغماض العيون والإصغاء لما أطلقت عليه اسم "صوتك الداخلي". جربت هذه الطريقة وأغمضت عيني لكنني لم أفتحها إلا في الصباح التالي، لقد غفوت في انتظار الصوت لكنني لم اسمع شيئاً ربما لأن عقلي لم يستطع أن يبقى دون أفكاره لعشرين دقيقة كاملة. لكن لا بأس فقد اقترح بحث آخر أن أطرح على نفسي السؤال الذي يحيرني وأخلد إلى النوم ثم من المفترض أن تأتي الإجابة على صهوة الحلم. فشلت هذه الطريقة أيضاً معي فقد استيقظت دون إجابة ودون أن أتذكر أنني قمت بهذا التدريب من الأساس إلا في اليوم الذي يليه. وعند هذه النصائح الغريبة انتقلت بعقل مشوش إلى المحطة الثانية وهي وجهات نظر الآخرين. حيث أجريت استفتاء بسيط لشبكة صغيرة من المعارف ومعارف المعارف.
الاستفتاء كان على شكل سؤال واحد وصل إلى المستهدفين عبر وسائل التواصل الاجتماعي: - مرحباً، ما هو الحدس بالنسبة لك؟ جاءت الإجابات مختلفة كقطع القماش الصغيرة التي تشكل مجتمعةً لحافاً جميلاً ملوناً من القصاصات القماشية لذا لا يمكنني عرضها جميعاً هنا، لكن بالتأكيد يمكنني تذكر بعضها الذي يضيف إلى الموضوع نكهة جديدة. - الإجابة الاستفتاحية "الحدس لم يوجد عن عبث تحققي منه دائماً، إذا كنت تشعرين بطريقة معينة هناك سبب ينتظر منك أن تكتشفيه ". - الكثيرون نفوا وجوده من الأساس واقترحت واحدة من الإجابات تغيير اسم هذا المصطلح إلى "استيعاب وافي للموضوع، مثلاً عندما تعرف شخص ما حق المعرفة يمكنك توقع تصرفاته". - إجابة أخرى وجدت في الحدس أمنية "ما نتمناه هو حدسنا وبالتالي لا يجب أن نثق به لأن ما نتمناه لا يتحقق دائماً". - "لابد أن ما نشاهده ونختبره منذ الطفولة وحتى هذه اللحظة يخزن في مكان ما، إننا لم نكتشف آلية عمل العقل البشري بشكل كامل، أعتقد أنه نوع من أنواع الذكاء الفطري أو المكتسب أو كلاهما معاً" - إجابة اللحظة الأخيرة هي لصديقة كانت منذ اليوم الذي خضنا فيه أول حديث جدي لنا وحتى هذه اللحظة توبخني على عدم منطقيتي "الحدس ألمٌ في الرجل تزامن مع مكروه أصاب صديقة مقربة" بعد التوقف عند الآراء الأخرى، المحطة الأخيرة ستكون مع رأيي الخاص.
في البداية لا أعتقد وبأي شكل من الأشكال أن الحدس يمكن استحضاره عن طريق نصف ساعة من الاسترخاء وعدم التفكير بل هو ما يشبه مادة لزجة تغطي الدماغ قبل أن ينفجر من كثرة التفكير في سؤال نتوقف عنده ولا نجد الإجابة. الحاسة السادسة مزيج من كثير كالاستعانة بالخبرات والتجارب السابقة، التمني، المشاعر، الذكاء وغيرها الكثير. لكن الأهم هو الخيط الذي يجمع هذا الكثير أي الثقة بالنفس، فنحن لا نحتاجها فقط في المرحلة التي نختار فيها أن نثق بحدسنا ونتبعه بل لا يمكنك أن تختبر الحدس أصلاً إن كنت تعاني من مشاكل في الثقة. هذه الأداة تمدنا ببصيرة ثالثة غير التي يقدمها القلب والعقل كلٌ لوحده، بصيرة يصفها الآخرون باللامنطقية لأنها تسمح لنا برؤية إشارات لا يميزها غيرنا لكنها بالنسبة لنا ما يمكن تسميته "منطق خاص بنا". وفي كثير من الأحيان يختلط الحدس بأمنياتنا، فنحدس بما نرجوه لكن هذا ليس سبب لنفقد الإيمان به فلا أحد يفوز بسباق دون أن يضيف خط النهاية الأحمر إلى قائمة أمنياته. إن الحياة منطقية بالمبدأ لكنها لا تستخدم منطقها معنا لذا نحن بحاجة إلى اللامنطق متجسداً في عالمنا على هيئة الحدس أو الحب ... إلخ.
كل ما يمكنني أن أقوله عن الحدس يمكن توضيحه في تجربة لي معه: في يوم من الأيام انهار كل ما خططت له وأصبحت وجهاً لوجه مع ما كان قبل قليل ناطحة أحلام، حينها كان عقلي منهمكاً في جلد الذات على سوء تقديره وبقي يكرر على مسامعي بأنه لا جدوى من المحاولة وأنني يجب أن أجد طريقة ما لأخرج من هذه المحنة بأقل الخسائر المكننة أما قلبي فقد كان أضعف من أن يقدم أي نصيحة لكن في ذلك اليوم تدخل طرف ثالث وقال بكل وضوح وثقة: "لا تأخذي من الحطام إلا العبرة وباشري في البناء منذ هذه اللحظة " إنه الحدس الذي تملكني ومدّني بقوة محارب مغولي وصبر أيوب وعيون لا تبالي بالنظرات المشككة وإرادة مكتفية ذاتياً لا تبحث عن التشجيع الخارجي والإيمان بأن كل ما حدث كان لمصلحتي لا العكس.
لا شيء كما يبدو عليه، فجهاز الإيكو يخبرنا أن التورم الفظيع الذي يصيب المرأة لتسعة شهور هو بداية حياة جديدة وقلب العاشق يجد في التمنع والحواجز والصعاب حباً خالصاً صافياً وحدسي أخبرني أننا في الركام سنجد منبع الأحلام وهذا ما كان. اليوم أدرك أن حدسي دفعني في هذا الاتجاه لا لأثبت لنفسي أو لغيري بأنني على حق بل لأنني على هذا الطريق سأتلقى النضوج قبلةً تتلاشى على إثرها الطفلة وتولد المرأة في داخلي. اتبع حدسك لا لأنه سيرشدك إلى الصواب دائماً -لا وجود لوصفة مضمونة للصواب - بل لأنك على الطريق الذي سيرسمه لك ستنضج وتتعلم أن تقاتل في سبيل ما تؤمن به، ستشعر بالقوة تجري في عروقك و تجد أن الثقة شجرة من نوع خاص تثمر فقط بعد هبوب الرياح.
__________________________
** علا ماشفج - طالبة اعلام سورية
* العمل الفني من الانترنت.