12 May
12May

إنها الدرجة الثانية والنصف بعد السابعة والثلاثين، جسدي يعلن الحمى، ودفاعات ذهني العنيد تتداعى، ولسر لم أدركه بعد تأتيني جارتنا، غجرية هلوساتي العجوز التي لا تشيخ أبداً غريبة هي رؤوسنا وما تقرر الاحتفاظ به من ذكريات، وهذه الذكريات تختار أسوأ الأوقات لتطفو على سطوحنا، ما الذي يدفعني للتفكير بعجوز ريفية لم أرها مذ تعلمت التعبير عن نفسي بلغة غير لغة البكاء؟ يبدو أن الكشف ليس مقتصراً على أصحاب الكرامات، لنفسك أيضاً رسائل تبثها بكلّ الأشكال، ولا تنصرف إليها إلا حين تشعل في أضلاعك الحمى، وتقول لك اسمعني.

جارتنا العجوز الدهرية ودقات ذقنها الثلاث، هي كشفي، الدقات الثلاث الموشومة وأول ولعي باللون الأزرق، جلوسي كقطة وديعة عند قدميها أنسج في خيالي الطفولي عنها الحكايا. إنها ليست غجرية في الحقيقة، جاءت الغجرية بإبرتها، غمستها في الحبر الصيني وغزت جلد وجهها الطريّ، ثمن الوشم "السيال" صندوق بيض وسبع أرغفة تنور، ولم تبك يومها، وكانت فخورة بدخولها عالم النساء.

لم يحدث هذا فعلاً، وقد يكون حدث بالفعل، يطيب لي أن أتخيل الواقعة كما وصفتها، ويطيب لي أن يكون لها وجهي، لوجهينا الاستدارة ذاتها، وآنذاك كان لي أنف دقيق كأنفها وعينان صغيرتان، لكنهما كانتا تبرقان، تماماً كما تبرق عيناها دائماً، ولتكن نسختي من الحكاية صحيحة. الحقيقة الثابتة هي الدروب العميقة في حطب كفيها، البريق المخيف في عينيها، ورائحة البن والحناء في مهرجان اللهب المتقد في خصلاتها، لم أخترع هذه المكونات ولم يجر رأسي أية تعديلات عليها، أراها كما كانت تماماً كلما أغمضت عيني على الحمى، وتحديداً كلما هاجمتني الحمى وحيدة.

حديثها عن "الضيعة" التي أتت منها، وصندوق ال"صيصان" الصفراء الشقية الذي يشهد على كلامها، إنها حقاً أتت من الضيعة المدروزة بشجر الزيتون، ولديها دجاجات حقيقية وإلا من أين لها بصندوق صيصان لا تموت في اليوم الثالث؟ عجوزي لا تكذب، وهذه تهويدتي في اعتلالي، تهويدة لا نذبح فيها طيور الحمام. رحيلها الهادىء وثورتي، إنها جارتنا ودقات ذقنها الثلاث، إنه رحيلها الذي يفجعني، صندوق الصيصان الصفراء الشقية كان حجتي للبكاء.

هذا "الفلاش" يسبق مفعول خافضات الحرارة، لماذا عليها أن ترحل؟ ولماذا لا يهتم الكبار بحزن الصغار؟ إننا نحزن فعلاً، لا نبكي للفت الانتباه أو تحصيل الامتيازات، إن الصرر المحزومة عند الباب تعصر قلوبنا، ووداع العجوز يأخذ معه شيئاً منا، ولا أحد يكترث ليفهم أن الصيصان ليست مهمة، ما يعنينا هو سيدة الصيصان وأسطورتها، وتأتي هذه الكائنات الهشة لتمنحنا ركناً نبكي فيه دون أن نبدو كأطفال ممسوسين يبكون ما لا يفهمونه.

يحدث أن تنطفئ السماء برحيل زرقة دقات الحنك، وأين لي اليوم بصيصان صفراء شقية أعلق حزني وثورتي على رحيلها؟؟
__________________________________________
** فرح يوسف - قاصة سورية.
* اللوحة للفنان السوري "وسام الجزائري".

تم عمل هذا الموقع بواسطة