17 Jan
17Jan

تقفُ في صباحك التافه محاذياً كابينات الهاتف المهجورة، ريثما يحالفُك الوقت بسيّارة تنقلُكَ معها أكثر من 18 كم نحو مركز المدينة. إنّ اصطيادَ السيارات في الشتاء نحو دمشق أمرٌ شاق؛ يلازمُك شعورٌ بالافتراس إذ تقتحمُك عيون الآخرين، يربّط قدميك، ويبدد الفرص أمامك. أنت لست فريسةً مشتهاة لأحد، لا تبدو كذلك، بيد أنّ العشرين دقيقة انتظار صباحاً تذهب بهُزالك وتلبسُك هالةَ الصمت والنظر. يرنّ الموبايل، هو الآخر في وضعية الصامت منذ عامين، رنّته الكلاسيكية ترهبك، تستخدمه كساعة وحسب، عندها فقط تلتفتُ لبعض المكالمات الفائتة، لا تردّ بكل الأحوال؛ إنما تحاولُ الالتفاف على المواعيد وتزجيتها. رنّة ثانية آه من هذا الخرا «أبو نور»، إذن لا مهرب ستردّ.

-    هادي، وينك يا رجل؟ إلك عندي مفاجأة من رفيقنا رافع.

نسيتُ أن أخبركم إنّ «هادي» هو محض اسمٍ حركي، وآسف جداً يا أبو نور لاستخدام اسمك الصريح على العلن، أمّا باقي الشفرة فهي كالتالي، المفاجأة: تعني قصاصات رمادية لتحليلات سياسية تروق لمزاج أبو نور، أمّا رافع: فهو شخص يراه أبو نور مهمّاً، وقد نصّب نفسه صلة وصل بينهما. هادي يرى رافع مشهوراً أيضاً، ولكنه لا يستحق اكتراثاً أو إضافة إلى قائمة الأصدقاء في الفيسبوك، مثله كمثل أبو نور الذي يتحاشاه في جولاته الزرقاء.

***

لا حواجز هذا اليوم تزيد الصباحات تفاهة أو تحرّض متلازمة الافتراس فتقبض أحشاءك ــ ربمّا هي أشياء مؤجلة لبعد اللقاء بأبو نورــ مرّ زمن طويل ولم تعدْ تثيرُ اهتمام أحدٍ، أمّا فتى ميليشيا "العاصفة" المُرابِط على الدُّشم يفاصِلُ أقواماً ريفيّين من مهرّبي المازوت، فلا يكترث لسيّارة مخلّعة تقلّ عدداً من الأساتذة العلاكين، كما يصفهم.

يصلُ هادي إلى المدينة، وثلاثُ ساعات تفصلُه عن لقائه بأبو نور، يقرّرُ التزوّد بالحُبّ عند «غسان»، قبل جرعة الكره والقرف المقبلة. يعاين رسائل الموبايل بينه وبين غسّان، يعتمد معه نصوص SMS إذ قلّما يلجأ إلى مجاهدة الكلام، تكفي بعض التلميحات العابثة ليحدّدا موعداً مفتوحاً يتأخر عنه كلاهما. يجلسان في المقهى ويمتدحان السياسة أوّلاً، وبجملة وحيدة "لا داعي لأقول لك إنّ أبو نور بيكرّهك بالحياة عموماً لا بالسياسة خصوصاً" وسرعان ما ينتقلان إلى الحديث الثاني، لا حديث آخر في الحقيقة، سوى خوف يقضم عيونهما، وسعالٍ كريه لمراهقين أغبياء يلوذون بشاشات موبايلاتهم الذكية. يغرق هادي بدقّ شطرنج سريع مع غسان يعزز الصمت وغمامة الدخان في المقهى، ويدرّب الهُزال فيهما على الافتراس.

قريباً ستسافر يا غسان... يُفتَتَحُ اللعب ويُحرَّك بيدقٌ، قريباً سينتهي تأجيلك عن العسكرية ويسوطُك الوقت... يُحرَّك حصانٌ، قريباً سيلوكُ المللُ وجهَك الشاحب، لا تغرّك أرنبةُ أنفك يا غسان ستمرّغ قريباً، أمهلم رويداً، كش مات، يُحطّمُ غسان بالفعل، ويهرب هادي إلى لقاء أبو نور بكل أنانيّة.

***

اعتاد أبو نور السير في الشوارع المزدحمة، تهرّأت أحذيةٌ كثيرة وظلّ يجدُ في الشوارع أمكنة للاجتماع بعد أن وجد  الكثيرون طرقهم الخاصة للإثراء، والوصولية ــ لو أنّ أبو نور يقرأ ما يكتبه هادي عنه الآن كان سيعجب باستخدامه لكلمات من معجمه اللفظي كالطريق والوصولية، حتى مع وصفه له بالخرا بداية، لا لأنه عبثي وحياته ملأى بالشتائم، بالعكس فهو انطوائي، بل لأنها مفردات تعني له الكثير، وسيكون هادي سخيفاً لو درجَ على الاستهزاء بها.

يصلُ أبو نور منهكاً لاهثاً، كأيّ رجل خمسيني، يسند ظهره بجذع شجرة الكينا

-       "بدنا نمشي كثير يا أبو نور اليوم؟" يقول هادي ممتعضاً

-        هدّي شوي جايبلك الهدية

-        ما بدي تحليلات شبّعتنا ورق

لم ينتبه هادي لما يحمله أبو نور في يده، كان كيس كعك ساخن فقط، انفجر بوجهه صراخاً ثم ضحكاً، جلسا تحت شجرة الكينا دون قراءة أي قصاصة مهمّة، ولم يمشِيا حدّ الإنهاك، راقبا الناس غير المكترثين في شارعهم يرصدون ازدحامهم وعزلتهم

-           رافع كيفو؟

-           سافر...

ازدردَ هادي الكعك الناشف بصعوبة، وتصوّر نفسه بغرفته وحيداً بلا ضجيج وهو يعدّلُ الشِفْرة بما يتناسب مع كيس كعك عظيم كإلهٍ لذيذ وساخن يُهدّئ من متلازمة الافتراس التي ستقبض أحشاءه لا محالة.
___________________________
** أنس الأسعد - كاتب سوري
* الصورة من مسرحية في إنتظار غودو

تم عمل هذا الموقع بواسطة