الأماكن، وما أدراك ما الأماكن.
هذه المدينة مأهولة بالبط أكثر منها بالسكان، وليست جميعها بطّات بنية كالحة، هناك بطّات أفلام الكارتون، ذات الرقاب الخضراء والأرجل البرتقالية الفاقعة، هناك الكثير منها، ولا أحبّها.
إنها طيور لطيفة مضحكة، حقاً مضحكة، تتبختر أمام قصر أمير فرنسي كأنها تملك المكان، تتمشى على الجسر في المطر، كأنها تخاف أن تبتلّ في النهر، تتحشّر بين عاشقين ملهوفين، وتجري ما أن تستحوذ انتباهما، أليست مضحكة؟ لماذا لا أحبّها؟
إن الساعة ليست الثامنة مساءً، والنهر ليس نافورة قذرة، والبطّات الملونة حرّة بالكامل، ليس هناك من يطلقها في ساعات معينة، من أيام معينة، لا أحد يعرف سبب تعيينها.
وأنا في الثالثة بعد العشرين، تأخرت البطّات ستة عشر عاماً، وجاءت بعيدة جداً عن نافورة حديقة السبيل.
كانت البطّات الجائزة غير المتوقعة، كانت فرحتي بالعودة إلى المنزل بعد أن تنام الشمس، لماذا لا يطلقون لنا البطّات صباحاً؟
حسناً، هنا لا أحد يطلق البطّات، لها أن تسرح وتمرح، لها أن تهزّ ذيولها هازئة بنا، لها أن تسود المكان، ولي ألّا أحبّها.
أنا لا أحبّ بطّات هذا المكان.
الأماكن، وما أدراك ما الأماكن.
يمكنني أن أركب الباص هنا دون تحصينات، يمكنني أن أقف حتى، يمكنني أن أقول للسائق "صباح الخير" و"يعطيك العافية" دون أن ينظر إلي كفضائية، أو كعاهرة، يمكنني أن أكون سائقة الباص لو أحببت، ولا أحبّ هذا الباص.
هذا الباص ملوّن، أستخدمه يومياً، ولا أذكر لونه وأنا أكتب هذا الكلام، حقيقةً حاولت، ولم أتذكّر لونه، لم لا يكون أخضراً؟ بنوافذ مكسورة، ومقاعد مخلوعة، والكثير من ال"شراحة" للقهر.
لماذا لا يبدو البؤس على وجوه هؤلاء الناس هنا؟ ولماذا لا يتحدثون في أشياء تهمّني؟ لا يتحدثون سوى عن الأعياد القادمة، ألا تشغل بالهم جبال الفواتير، والأمراض الطارئة، وعروس عبدو "الرعنة"؟
هذا الباص ليس أخضراً، وليس معدًّا لضخّ الشبيحة والقهر في الساحات، لا أحد ينزل من هذا الباص بكسر في ضلعه وكلية متهتكة، ولا تهجير قسريّ يأخذ مكانه بين هذه النوافذ، مكان لطيف أليس كذلك؟ حتى أنه مدفأ، لماذا لا أحبّه؟
هذا الباص غير صالح لكتابة السيناريوهات، ومقابلة شبيه صديقي الشهيد، والتلصّص على حوارات المهمومين.
له أن يكون باصاً نظيفاً، تقوده امرأة، لا يتحرش فيه أحد بأحد، لا تذاع فيه لطميات أو موالد، ولي ألّا أحبّه، ولا أحبّه.
أنا لا أحبّ باصات هذا المكان.
الأماكن، وما أدراك ما الأماكن.
أستيقظ صباحاً لأذهب إلى الثانوية، لهذه الثانوية ثمانية مبانٍ أو ما يزيد، لها طاولات بيضاء نظيفة، سبّورات زيتية غامقة، ومعلّمات أنيقات، ولها أبواب دوّارة، وليس لها زيّ موحّد، ولا أحبّها.
فيها شبّان وفتيات، ببناطيل ممزقة، وسترات جلدية رقيقة، حلقات في الآذان، وكحل في العيون، والكثير من الحياة.
إن المقاعد هنا تشبه المشافي، وأنا أحبّ مقاعد مدرستي، حيث فرصة التقاط الجنجرينا من مساميرها أرجح من فرصة التقاط معلومة مفيدة بتجرّد.
يمكنني أن أذهب الآن إلى المدرسة بوجه مطليّ بالمساحيق، وشعر مفرود على كتفيّ، ولا أحبّ مظهري، يكفيني خط من الكحل الأسود أتحدى فيه الموجّهة البعثية، وحلقة مطاطية بالكاد تمسك خصلاتي، تستفزّ مدربة الفتوّة التي سمّوها "مشرفة ملابس".
يمكنني أن أرتدي فستاناً صيفياً إلى المدرسة، الطقس يسمح بذلك، لكنني أرتدي كنزة صوفية، وألفّ عنقي بوشاح سميك، لا أحبّ هذا الدفء الباهت، لماذا لا يرأفون بنا بمدفأة صدئة "أم طاسة" تنزع البرد عن أرواحنا؟
لهذه المدرسة أن تكون كبيرة، علمانية، بمعلمات أنيقات، وصفوف نظيفة، دافئة، ومناهج حديثة، ولي ألّا أحبّها، ولا أحبّها.
أنا لا أحبّ ثانوية هذا المكان.
الأماكن، وما أدراك ما الأماكن
أذهب إلى المقبرة هنا بشكل دوريّ، ليس لي أحد فيها، فأزور قبور من لم يعد لديهم أحد، أسلّم على القبور المكسوّة بالغبار، والخالية حتى من وردة يابسة، وأقول bonjour، وأمنع صديقي من تشغيل أغنية بصوت مرتفع.
ليس عدلاً أن نُسمع الأموات "حارث مهيدي"، إنهم لن يفهموا ما يقول، ولن يستطيعوا سؤالنا الترجمة، وهذه قسوة حقيقية.
أزورهم دورياً، ولا أحبّ مقبرتهم، إنها نظيفة، ملوّنة، مراقبة بالكاميرات، تجثو فوق معمّرين، ولا أحبّها.
يمنعون دخول الكلاب، الكلاب أرواح يحق لها زيارة أحبائها، ويمنعونها، أراهن أن من أزورهم كانوا ليفضّلوا زيارة من كلابهم على زيارتي.
لا أشعر بالقهر حين أدخل هذه المقبرة، لقد عاشوا حياةً مديدة، أشك أن أشلاءهم تناثرت حين ماتوا، يشعرونني بالأسى، أخاف الحياة المديدة، ولا أحبّ مقبرتهم.
ليس هناك آس، ليس هناك ريحان، أو حبق، ليس هناك امرأة ترتدي ثوباً بنياً، لأن الحداد الأسود حرام، وتزيل الأعشاب البرية التي نمت على سماد فقيدها، يا لها من فكرة مرعبة، إننا نقطف أحبابنا ونرميهم بهيئة أعشاب ضارّة.
هناك قبر لشاب لم يصل للعشرين، تركوا له
قبضة "البلاي ستيشن"، وضعوا صورته، وكتبوا له لن ننساك، "لن تُنسى"، ولا أحبّه.
ماتت قبضات البلاي ستيشن والدمى القطنية في القصف، احترقت الصور، ونسونا، نسونا جميعاً، ونما الحبق الحزين على سرير من سمادنا.
لهذه المقبرة أن تأخد موقعها في أعلى المدينة، وتطلّ على أجمل المناظر، ولنوافذها أن ترسم لوحات بالظلال، ولحصاها أن يلمع بعد المطر، ولي ألّا أحبّها، ولا أحبّها.
أنا لا أحبّ مقبرة هذا المكان.
الأماكن، وما أدراك ما الأماكن
شوارع هذه المدينة عريضة، هناك الكثير من الحصى في الطرقات، يخافون أن نكسر أعناقنا في صباحات الثلج والصقيع، يرشّونها بالملح، هناك موظف يدفعون له ليتمشى مع وجه الصباح ويرشّ الأرصفة بالملح، أسميته رسول البحر، ولا أحبه.
هذه الشوارع ملونة بالخطوط، أبيض، أخضر، وردي، ولكلّ دلالته التي لا تعنيني، أسير على الخط الأبيض حين أعبر الطريق، غالباً ما أنسى، لكنني أحاول أن أتذكر لسبب ما.
إنها مفروشة بفضلات الكلاب، الكلاب لطيفة معي هنا، حتى إن عبس غيري في وجهها، تمنحني الفرصة لأكون أفضل منه، تُدخل الفرحة إلى قلبي حين تقفز على ساقيّ، ولا أحبّها. يسألني صديقي لماذا لا تمشين في الشوارع مساء؟ ما الذي يمكن أن يحصل؟ هل يغتصبونك؟ يسرقونك؟ يخطفونك؟ يقولون لك "مرحبا" حتى؟
لا شيء من هذا يحصل حقيقةً، الشوارع مزروعة بالكاميرات، أتخيلها أحياناً تذيع بياناً ما من "الأخ الأكبر"، ولا أحبّها.
هذه الشوارع ليست مكسّرة، ولا يخرجون أحشاءها كل شهرين، لا حفر خلفتها القذائف، ولا تنحني لتلتقط رصاصة ساخنة أخطأت رأسك وحطّت عند قدمك، ملوّنة بكل الألوان، لكن ليس فيها برك حمراء، حمراء لأنها برك دم، نعم شوارعنا فيها برك دم، ولا أحبّ هذه الشوارع.
ليس لي في هذه الشوارع شيء، ليس لي جدران سندتني حين بكيت، لا أشجار نقشت عليها حرفاً ولم "أسخى" بنقش باقي الحروف، لا حروف F وحيدة هنا، لا أعقاب سجائر من باكيتات "الأي شي تحت ال٣٠٠ ليرة"، لا أغنيات موحّدة أينما مشيت، لا ضحكات، ولا خوف، ولا قهر، لا شيء، ولا أحبّها.
لها أن تكون عريضة، ملونة، نظيفة نسبياً، مخدّمة، مُراقبة، مأهولة بالكلاب اللطيفة، ولي ألّا أحبّها، ولا أحبّها.
أنا لا أحبّ شوارع هذا المكان.
الأماكن، وما أدراك ما الأماكن
مكتبة هذا المكان كبيرة، للحدّ الذي يشعرني بالصغر، إن قسم الأطفال وحده أكبر من مكتبة جامعتي، أسكنها تقريباً، ولا أحبّها.
فلسفة، سياسة، صحة، فلك، علوم، اقتصاد، وهذا قبل أن أصعد الدرجات إلى قسم البالغين، ولا أحبّها.
إنها ليست مكتبة صغيرة، أحتمي بها من المطر، وأختار مشروباً من لوح خطّه "مجد كردية"، ويختار لي باسل غيره، ويدندن لي "الله كبير" وهو يعدّه، إنه عصير الجريفون ملوّناً بالأزرق، ليس موجوداً في القائمة، إنه لي، مرّ ولاذع، وأحبّه.
كل شيء هناك خشبي، والخشب أحنّ علينا من الحديد والاسمنت، كل شيء هناك يبتسم في وجهي، ويُقدّم لي مع "درويش" والحبّ والأغنيات، وعود "أسامة بدوي".
لهذه المكتبة أن تكون، كبيرة، مكتظة بالمعرفة، مجانية، مرحّبة، قريبة، ولي ألّا أحبّها، ولا أحبّها، أنا لا أحبّ مكتبة هذا المكان.
الأماكن، وما أدراك ما الأماكن
إنه عبء الحنين، وفوضى الشوق، إنه الحواجز التي تنصبها النوستالجيا، ولجوؤنا المستمر إلى الألفة الكاذبة، إنه استهزاء البطّات بنا، إنه أن يصير هناك هنا، وهنا هناك.
وإنها الأماكن، الأماكن التي نرجوها أن تقبلنا، ولا نستطيع أبداً أن نقبلها.
أنا لا أقبل أماكن هذا المكان.
_____________________________________________
** فرح يوسف - قاصة سورية
*اللوحة للفنان "برونو ليلجيفورس"