"سبعة عشر"، صدح الصوت على الطرف الآخر من البوابة، نظر سبعة عشر حوله ليشاهد أصدقائه الذين كانوا يزاحمونه الرخامات الأرضية شاغلين وقتهم بالهمس، لكنه لم يجد أحداً. نهض بصعوبة وطرطقت عظامه، ركلّ قنينة الزيت المملوءة بماء الشرب، حضن كيس ثيابه /وسادته، ووقف أمام البوابة مُعرضاً لها، يحدّق في الجدار، كان يضجُ ملامحاً أكثر من وجهه، ثم صوت القفل.
فُتح الباب وخرج مطأطأ، شرع يبحث عن نظرة وداع مليئة بالحسد كانت الزجاجة وحدها تتقيأ الماء.
صوت القفل يَدْوي مرة أخرى، أُغلقت البوابة لم يبق أحد، المكان ليس ضيقاً، قطرات الماء الآسن تتساقط من السقف، لا يهم الفصل خارجا، بنفس الروتين تهطل، لكن لا رؤوس أسفلها لترتطم بها، بقيت الرخامات المكتظة، واختلف اللحن، تلك النافذة التي تطل على قبو مظلم، ارتاحت من النظرات المتعلقة بها، والقمر راح لخسوفه الأبدي.
الخطوط العمودية التي خطتها الأظافر على الجدران بدأت تتداعى، لم يعد هناك داع، انتهى الوقت هنا.
في الزاوية قرب الحفرة التي كانوا يقضون حاجاتهم فيها، الرائحة تختفي تدريجيا، أطلّت الصراصير من بين الثقوب بقرونها تستشعر إن كان هناك مزيد من القتلة، ذَنب سحلية مفصول عن جسدها يرقص فرحا، فقد صار سيد الحجرة هنا، الوجوه التي تشكلها المخيلات على السقف تبعاً للرطوبة تبتسم، تحزم حقائب معانيها وتعود عيوباً على السقف .
هل المكان مظلم ؟
الصرخات القادمة من الخارج لا أذن تسمعها الآن، التمتمات في الداخل وصداها يخفُت، الدموع على الأرض تجف، على سواحلها جلطاتٌ من الدم تمدُ ساقيها تحدق بالسقف، تحِن إلى جسد كانت تنتمي له وتركها خلفه .
الجميع خرج بهذه الطريقة، حدق وخرج، هكذا تُفكر، لم يبقَ لهجات غريبة، الذكريات الكاذبة التي قيلت هُنا تصطف فوق بعضها، أرواح من خرجوا، تسأم .
تتمنى لو تكون عظماً، بقايا الطعام غير الصالح للأكلّ مركون والصراصير تتزلج عليه، هذا كان مطلبها، فلم كانت تلك القسوة.
لم يعتد هذا المكان على عدم وجود جياع هنا، هذا لا يعني الشبع بالتأكيد، فبين هذه الجدران لا وجود للشبع أو الآلهة، يوجد فقط طعام وصلوات تُتلى، المياه حبيسة في المواسير لا تعرف ماذا يحصل، إلا أنّ التيار الخارج نحو الأفواه أو المؤخرات قد توقف.
الجدران تحاول الاقتراب من بعضها، والسقف ينخفض بخفةٍ كي لا يختلف لحن الماء المتساقط، الهدوء الرتيب سِمة المكان، العزلة سِمة الأرقام، تنسج العناكب على الجدران بيوتها، لكن لا وحي قد ولج إلى هنا.
بعض نثرات الزجاج تلمع على الأرضية، المرآة الوحيدة التي دخلت هنا، لم تعكس أي وجه، لم تُسأل هل هناك أجمل مني؟ كلّ ما شاهدته ارتجاف شعر معصم يد، ثم تهشمت.
حين يفتح الباب ثانية سيعود كلّ شيء كما كان، لكن بمعنى آخر، هنا ميلاد المجازات، أساطيرٌ عمّن كانوا هنا، اقتفاء أثر آبائنا الأولين، كم من رقم جلس هنا، كلّ الأرقام هنا أولية .
الثياب الداخلية الممزقة المتراشقة على قضبان البوابة ستحمل مفرزات من مروا من هنا، فذاك بول ناتج عن رعب وآخر عن حضيض . ونطاف ذلك الرقم الفتي الذي لم ير شاربيه، وقيل له أن وبر وجهه أصبح شعراً، تحيطه نظرات الازدراء من حوله بسبب استيقاظه شاهقا كلّ ليلة عندما تفتح البوابة في حلمه، وقد أصاب ثيابه الندى، ممحون هكذا أصبح اسمه.
السقف يطل على الأرضية يبحث عن من يشير إلى تلك الندبة الحديدية فيه ويقول ها هو نجم القطب، ذلك كبد، وسحلية تسير تحت الدهان، لوح الأبجدية هنا مختفي بين البلاطات، كلمات عناوين تنقش بالأظافر المأكولة، ونجم القطب يذوي ليصير شهاباً.
________________________________________
** أحمد ابراهيم - كاتب فلسطيني
* الصورة من (http://www.naosoogato.com.br)