-عامل نظافة
عشرون سنة ولّوا من عُمري و أنا لا زِلْتُ أُمارس المهنة ذاتها.
عشرون سنة و أنا أعمل كعامل نظافة، لديّ القدرة على تنظيف كلّ الأشياء من حولي، و أفشل، عندما أُريد تنظيف خزّان رأسي، الّذي تتكدّس فيه الأوساخ كلّ صباح.
**
-معلّم مدرسة.
لطالما حلِمت عندما كُنت صغيراً أن أصير قائد أوركسترا عظيم مثل "بايبلو أبادو"، أنظُم بعصاي إيقاع الكون كلّه، و في نهاية الحفل أُصغي بفرحٍ لهتافات الجماهير و تصفيقهم ،و أمامي ،يُرمى حدائق من الورود.
لكنّ و بما أنّني لا أملك أُذناً موسيقيّة و كنت ذكيّاً في مادة الرّيّاضيّات، صرت معلّم مدرسة، ينظم بعصاه طلّاب صفّه، يكتفي بتصفير الطلّاب ،و بعض الطّباشير ،أو حبّات فستق تنهال على رأسه ،كلّما وجّه وجهه نحو السّبّورة.
**
-قاتل مأجور.
أستيقظ كلّ صباح، أُلمّع مسدّسي، و أتّجه نحو مكتب العمل ليتمّ تزويدي بالمعلومات عن ضحايا اليوم و عدداً من الرّصاصات مساوياً لعددهم.
هذا العمل دخله عالٍ و لكنّه خطير جدّاً، حيث أنّ أحد شروطه، أنّني إذا خسِرتُ رصاصة و لم تكن الضحيّة قد صارت في عداد الموتى، سأموت بدلاً منها.
لذلك، أثناء تأديتي للمهمّة، أقتلُ بحذر، خوفاً من أن يتمّ قتلي.
في المساء بعد أن أتمّ عملي على أكمل وجه، أعود إلى المنزل، أجلس وحيداً، و أبكي، فتسقط من عينيّ وجوه الضّحايا اللّذين قتلتهم هذا اليوم، أحقد على نفسي، و يصير لديّ جُرأة كبيرة على الموت.
لا أكون خائفاً ،أُمسك المسدّس، أضعه في فمي، و أُطلق على نفسي ببرودة قاتل مأجور، و لكنّ لا شيء، لا يحدث أيّ شيء، لا يوجد في المخزن رصاصة إضافيّة ،للانتحار.
**
-عامل إطفاء.
قرأت كثيراً في طفولتي عن بطولات عمّال الإطفاء في إخماد حرائق المنازل و إنقاذهم للضّحايا اللّذين في خطر، لذلك قرّرت أن أصير واحداً من هؤلاء الأبطال حين أكبُر.
بعد ممارسة المهنة حصلت على الكثير من الميداليّات تتويجاً لأعمالي البطوليّة.
حيث أنّه، كلّما رنّ جرس الإنذار ،أهرع من مكاني كذئب شرِس، أنزلق على العمود الواصل بين سقف الغرفة و أرضها، لأقود عمليّة الإنقاذ، و دائماً ما كُنت أنجح.
و لكنّ الآن و أنا مرميّ على رصيف غريب في بلادٍ بعيدة، كلّما تأجّجت نار الأشواق في داخلي للوجوه الّتي أحبّها، أهرع محاولاً التصرّف كبطلٍ، لإخمادها.
أهرع من مكاني كذئب شرس، أنزلق على العمود الواصل بين سقف غرفتي و الأرض، و لكنّ سُرعان ما يتحوّل هذا العمود إلى كابوس، يمتدّ بلا نهاية.حيث أنيّ أنزلق مسافات طويلة، إلّا أنّ قدماي لا تصلان الأرض أبداً ،فأحترق و أتحوّل إلى رماد ينتشر في فراغ هذا الكون الواسع.
**
-ساعي بريد و عاشق.
لقد كان حُبّك من أصعب المهن الّتي مارستها في حياتي حبيبتي، كان دوامه طويلاً، منهكاً، و مؤلماً جدّاً.
و لكنّ من منّا لا يحبّ الألم يا بَعيدة.
كرّست لهذا العمل قدراتي كلّها، حاولت تطوير مهاراتي الشّعريّة لأنّك كُنتِ تُحبّين الغزل.
و لكنّ عندما تركتني، شعرْتُ بفراغٍ كبير دون مهنة أُزاولها، و صار يومي ثقيلاً، لا يمرّ أبداً.
لذلك صِرت ساعي بريدٍ خاص، يكتب الشّعر لحبيبات أصدقائه على شكل رسائل، و يقوم بتوصيلها أيضاً.
إلّا أنّ تلك المهنة جعلتني حزيناً، لأنّني كُنْت أطرق أبواب كلّ البيوت لأوصل البريد،أرى وجوه كلّ الفتيات في منطقتنا و لا أستطيع أن أطرق باب بيتك، كي ألمح وجهك القمر الّذي كتبت له كلّ تلك الرّسائل.
**
-حفّار قبور.
ورِثْتُ هذه المهنة عن والدي الّذي دفن بيديه نصف سكّان هذه المدينة.و حين مات، كانت تلك تجربتي الأولى في الدّفن.
ثمّ ما لبثت الحرب أن غزتنا حتّى صرت حفّار قبور متمرّس.
دفنت الشّيوخ، الآباء، الشّباب، الأولاد، الأطفال، الأمّهات، الأرجل، الأيادي، الأعين و كلّ قلوب سكّان هذه المدينة.
و الآن ،صِرت وحيداً، كلّ من في المدينة ماتوا و صاروا تحت التّراب.
و لأنّني النّاجي الوحيد، أصابني حُزن، أنّني لن ألقى جنازةً تليق بي كحفّار قبور.لذلك، حفرت قبراً، و استلقيتُ فيه.
تحت الأرض ممسكاً كلّ الأيادي الوحيدة التي دفنتها، أراقب العيون وهي تنزف الدموع عليّ وأنا أنتظر موعد موتي.
__________________________
** نبراس تركية - كاتب سوري
*اللوحة للفنان السوري "عمر نصيرات"