تخرج طلاب قسم الرقص "كرنفال عكس رفض الشباب لواقع يدنو من الهاوية"

لطالما كانت خشبة المسرح  بقوالبها الفنية المتنوعة منبراً يصدح فيه الصوت داعياً للتحرر ونقض المعتقدات البالية التي تضعنا ضمن حلقات عدمية مفرغة وتدفعنا إلى الشعور الدائم باللاجدوى.

فقد ظل المنبر المسرحي -منذ يوروبيدس إلى يومنا هذا يحض على البحث عن أجوبةٍ لكل الأسئلة التي يثيرها المجتمع في مختلف ظروفه وحتمياته  في وجه الفرد الذي يسعى بدوره لتفنيد كل المسلمات والأحكام مسبقة البناء والتي أصبحت بالتقادم قيداً يكبّل الروح ويحولها تدريجياً إلى رقمٍ هامشي أو منحوتة ملكانية خالية من كل معنى ولا همَّ لها سوى الحصول على كفاف يومها.

ومن هذه الحيثيات انطلق طلاب السنة الرابعة في قسم الرقص التعبيري في المعهد العالي للفنون المسرحية أثناء عملهم على مشاريع تخرجهم التي واجهوا فيها فرضية غير سهلة نسبياً قائمة على ابتكار جملة راقصة انطلاقاً من حدث غيّر حياتهم, ورغم أن البديهي أن تكون مشاريع كل من "لارا بخصار, رأفت زهر الدين, فادي جحا وخاتشيك كجه جيان" مختلفة إلا أنها تقاطعت بعضها ببعض بعدّة أفكار تعبّر أساساً عن الشعور العام للشبان والشابات في مجتمعنا والذي يرفض الواقع ويسعى لاحتواء أكبر قدرٍ من الثقافات الأخرى بهدف الارتقاء بالبنية الإنسانية المعنوية والمادية إلى حالاتٍ أكثر شمولية تمس الذات البشرية بالمعنى العالمي للكلمة.

المشروع الأول:

تصميم: لارا بخصار

بمشاركة: فادي جحا, أنجيلا الدبس, محمود توهان, رند شهدا, رهف الجابر

بدأ العرض بمشروع تخرج الطالبة لارابخصار المسمى "صرخة لحظة", فبنت لارا مشروعها على فكرة النزاع والخصام بين الأفراد النابع من إلقاء اللوم دائماً على بعضنا البعض مع التكرار الدائم لتوجيه أصابع الاتهام إلى الآخر لعدم امتلاكنا القدرة على تقبله بكل تناقضاته واختلافاته.

وعكست لارا في تصممها الخصام الدائم والصراع الغوغائي النابع من شرخ ملحوظ في مختلف علاقاتنا الاجتماعية التي تواجهنا على مدار الساعة في تعاملاتنا المادية والمعنوية, وقد وقفت لارا موضع الشاهد على كل هذا الشتات الذي يحدث حولها محاولةً التقريب والمواءمة بين البشر المتناحرين, فنرى سعيها للحفاظ على ملكة الحوار التي تكشف منابع الاتفاق بين البشر بشكل عام وبشكل خاص في عنصر الحب بين الذكر والأنثى الذي ركزت عليه المصممة في نهاية عرضها,  لكنها تفشل في محاولاتها لتصرخ في النهاية صرخة لحظة وتقرر السكوت أبداً في طرح عبقري لعمق هذا الإشكال وعبثية محاولة الولوج في ثناياه.

المشروع الثاني:

تصميم: رأفت زهر الدين

بمشاركة: نورس عثمان, خاتشيك كجه جيان, معتصم الجرماني, رهف الجابر

مشروع الطالب رأفتزهرالدين حمل اسم " بعد الساعة 12" وطرح من خلاله فضاءً لتجربة حياتية يبدو أنه تعرض لها, ابتدأ العرض براقصين (نورسعثمان, خاتشيككجهجيان) يجلسان في مقدمة المسرح في مواجهة الجمهور لتوريطه مباشرةً في الحدث الذي سيعرض أمامه, لينطلق بعدها الراقص (خاتشيك) مبتعداً عن (نورس) الذي مثل الواقع بمحاكاة صامتة, محدودة الحركة غير أنها مركزية تحاصر الراقص لتجذبه نحوها في نهاية المطاف إذ حاول الراقص الفكاك من قيدٍ ما والخروج من عباءة الواقع للولوج إلى عالم الأوهام الذي قام عبر ثلاثة تواريخٍ كتبها على الحائط يبدو أنها عبارة عن ثلاثة أحداث استوقفته وشكّلت له سداً يحصره في إطار سجن, لينتفض بعدها ويتعامل مع هذه الأحداث الثلاثة –التي تمثلت عن طريق ثلاثة راقصين- ويواجهها وهو يسعى للخلاص منها على الرغم من تشبثها به.

وفي ضبابية الجملة الراقصة التي صممها رأفت جاء إيحاءٌ بالفكاك من الأوهام التي تحاصره وتحاصرنا, أفكارٌ وهمية تطرأ على بال المرء وتأكل لبّه حين يخلو إلى نفسه, أفكارٌ ملؤها الشك والريبة تعترضنا في مستهل رحلتنا وتمنعنا من المضي قدماً, ليعود الراقص (خاتشيك) في نهاية العرض ويواجه الواقع المادي مجدداً حين تفنى الأفكار الثلاثة الماضية ويتعامل مع الواقع من خلال رقصة تعبيرية تمثل مواجهة الصراع الحقيقي مع الواقع والذي انتهى كما بداً بجلوس الراقصين (خاتشيكونورس) في الطرف الآخر من مقدمة المسرح في مواجهة الجمهور, فالحل دائماً بالمواجهة للوقائع والخروج من عباءة الماضي وأوهامه.

المشروع الثالث:

تصميم: فادي جحا

بمشاركة: لارا بخصار, أنجيلا الدبس, محمود توهان, رند شهدا

عكس فادي من خلال تصميمه الذي أطلق عليه اسم "حصار" ملخص لحياة الفرد الشاب الذي يقع تحت ضغط المجتمع وقيوده الجافة التي لا تقبل التغيير ولا تسعى لتقبّل الغير بل إنها وضعت لتفرض علينا بغض النظر عن مدى سلامتها ومنطقيتها.

بدأ فادي حصاره الجريء بوجود خمسة راقصين على خشبة المسرح يتعاملون على مستوى منخفض مع أرضية المسرح لتمثيل حالة تشبه الولادة والانعتاق الرحمي والخروج الأول إلى العالم, ومن ثم تبدأ المرحلة التالية للولادة والتي تقوم على استكشاف الفرد لتفاصيل جسده فتتبعها مرحلة الوعي بالأنا الخاصة للفرد البشري والإدراك العقلي الذي لا يلبث أن يتطور ليكوّن ذاته ويشكّل أبعادها الخاصة ليوصلنا فادي ونحن أمام رقصته إلى عالم البلوغ الجنسي للفرد وشروعه بإدراك أعضائه الجنسية, وكيف يفرض علينا المجتمع الخجل من هذه الأعضاء والجسد ككل ويبني أمامنا جداراً يقوّض فكرنا ويمنعنا من الاطلاع على الأمور ذات البعد الجنسي بشكل علمي ومنطقي, فيتولد عن هذا الجهل حاجزٌ يحاصر إدراكنا ويمنعنا من تقبل الآخر, هذا الحاجز هو ما مثله الشريط الأبيض الذي وضع على خشبة المسرح في مواجهة الجمهور, لنرى الراقصين في مؤخرة المسرح في حالة من الخوف والخشية, لا يجرؤون على الاقتراب من هذا الشريط الذي يمثل المجتمع بكل سلبياته التي تفرض على الفرد عُقداً نفسية نابعة من عدم تقبل المظهر الخارجي أو الميول الجنسي أو الحالة الاجتماعية ... وكيف أن الحالات التي عرضت أمامنا سعت للتكيف مع تقاليد المجتمع إلا أن حتمية الجسد وميوله شكلت لعنةً فرضها الرفض الدائم لأي أمر يناقض المسلمات المأخوذ بها.

أبدع فادي بالخروج من هذه الحقائق بشيء ذا أثر وجداني عميق يمس حتى من يخالفه الرأي لأنه في نهاية الأمر تم عرض حالات إنسانية مجردة, لامنتمية, ولا تطالب إلا بالحياة.

المشروع الرابع:

تصميم: خاتشيك كجه جيان

بمشاركة: معتصم الجرماني

العرض الرابع للطالب خاتشيككجهجيان حمل اسم "مينانتو" طرح من خلاله فكرة اغترابٍ نفسي وجسدي عن واقع تقيده تراتبية القواعد والقوانين, فرأينا بدايةً رقصة منفردة (Solo) لصاحب المشروع عبّرت عن ألمٍ وتشنج نابع ربما من الشعور بالوحدة ضمن بيئة ترفض تقبل الآخر كما هو وتحاول تحويره بما يلائمها, فرأينا تفاصيل دقيقة لعب عليها خاتشيك أودت بالجمهور لتفاعل عاطفي طقسي نابع من طاقة الراقص المشحونة بالمعاناة الإنسية التي تمس وعينا بشكل أو بآخر, ومن ثم تعامل الراقص الرئيسي (خاتشيك) مع شخصيةٍ أخرى (معتصمالجرماني)  تمثل الواقع الذي يكبّل الراقص/الإنسان ويكبح جماح طاقته في طرح ذكي لفكرة تحكم الواقع بالفرد المغترب تماماً عنه سواءً عن طريق ذراعي القواعد والقوانين التي أحاطت بالراقص أو عن طريق العزلة التي طرحت من خلال اللغة الأخرى (الأرمنية) التي تحدث بها الراقص والتي تحاكي طريقة تفكيره وتعامله مع الواقع الغريب عنه, وقد استمرت محاولة الراقص (خاتشيك) الخلاص والانعتاق من الواقع (معتصم) الذي ظل ملتصقاً به لا يفارقه, صارخاً بـ لا دوت برأس الراقص لنرى في نهاية العرض الشخصية التي مثلت الواقع تدور في زوايا المسرح/الحياة وترسم نوافذ تضيّق الخناق على الراقص مع كل خطوتين, ليجلس الراقص بعد أن ضاق ذرعاً من كل هذا في مقدمة المسرح ويواجه الجمهور بنظرة خيبة وعتب ليقول لهم تماماً "مينانتو".

أخيراً يمكننا القول أن خريجي قسم الرقص التعبيري في مختبرهم السادس عشر طرحوا أفكاراً جريئة مفعمة بالمعنى والأثر والفهم السليم لصيغة المعاصرة التي تنده بالعمل على حالاتٍ فردية وأفكارٍ مهمشة والصعود بها إلى حيز الفهم السليم النابع من زرع انفعالٍ يساعد على إدراك الحالة المطروقة والذي ينتهي بترك أثرٍ عميق في الذات البشرية, فقد شكلت الرقصات التي قدمها الطلاب في عرض تخرجهم بناءً رمزياً متكاملاً يعبر عن حقيقة روحية مطلقة لا يمكن التعبير عنها بأي صورة أخرى.

_____________________________________________

** كمال بشير - كاتب سوري
* الصورة الأولى للمعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق (من الانترنت)
* الصور من العروض (من الكاتب)