31 Jan
31Jan

زكي شاب لطيف يبلغ الواحدة والعشرين، يدرس في المعهد المتوسط للمحاسبة والتمويل، إلى جانب تسجيله في التعليم المفتوح قسم الصحافة، يعمل جرسوناً في مقهى الزاوية مساء، كان يحادثني عندما نلتقي في مناوبته، عادةً أغادر المقهى قبل مجيئه بحكم قربها من كليّتي وتواجدي المحكوم هناك بمدى تفويتي للمحاضرات. يحدثني باهتمام كيف أنه سيخسر وظيفته، كنت الزبون المدلل، لكن عندما تأتي في مناوبة أخر ى تٌنفى عنك صفة الخواجة تعود مجهولاً للجراسين وتنتبه لقبح المكان وغلاء أسعاره.

 اليوم تأخرت هنا، كان من المفترض أن أكون في حمص الآن، لكن ناي أجلت الموعد إلى الغد وسبق وأخبرت أهلي أني وصلت، لا مجال للعودة هناك، كان المقهى يعج بالمشجعين الذين يرتدون قمصاناً لفريقي اسبانيا والبرتغال خرجت قرب منتصف الليل واستقليت الحافلة إلى بلدتي التي تبعد 30 كم عن دمشق.

 حادثت صديقي وأخبرته أني أحتاج للنوم عنده، وطلب مني أن أعرّج إلى المقهى ونعود سوياً إلى منزله. شرحت له كيف أنني سأبيت ليلتين في السكن الجامعي في غرفة صديقي وأنّ ناي ستلتقي بأختها التي تدرس في ذات الجامعة وتبقى معها، كي نقضي أوقاتاً في أماكن جديدة إلا أن الموعد تغير في اللحظة الأخيرة، رمى سيجارته عند رأس حارته فقد لاح له ظل أمه الواقفة على الشرفة، قال نبيل أنها لا تقف هناك إلا عند المصائب، دخلنا غرفته وعاد بعد ربع ساعة وأخبرني أنها كانت تنتظره فقط. في الصباح أيقظني كي ألحق بموعدي وأخبرني أن جدته توفت، الموت يبعثر الأوراق ونبيل كان متخصصاً بلملمة الأوراق وترتيبها، ذكرني أن أشتري مزيلا للعرق وأعطاني حقيبته، تركت لابتوبي عنده، وغادرت قبل مراسم الدفن.

 الرسائل تصل متلاحقة من ناي وأن والدها أوصلها للكراجات وأنها صعدت في البولمان، لم يسبق أن ذهبت إلى حمص بالبولمان من قبل، اكتشفت مدى جهلي عندما قيل لي أني في كراجات الهوب هوب، كيف سنجلس سوية؟ هذا ما كنت أفكر به ولم أفكر كيف سنكون على متن ذات الرحلة، قطعت تذكرتين لرحلة يفترض أنها غادرت منذ عشر دقائق، صعدت أنا والمراقب، كانت ناي تجلس على أول كرسي تمسك بجوالها، ابتسمت لها ودخلت إلى مقعدي كنت أتصبب عرقاً، استعملت مزيل التعرق. وأرسلت لها رسالة قصيرة.. تعالي.

 القهوة على طريق السفر صباحاً أمر مبهج، استمتعت بالشرح لها كيف أنني حجزت تذكرةً على اسم ابن عمي بحجة أنه سيلحق بي، وتساءلنا لماذا أخذوا هوياتنا بينما لم يسألوا عن هويته، فقط سألوني إن كان عسكرياً وقلت لهم لا، لا أعرف إن كان عسكرياً أم لا حقيقة.

 من يأكل طعام الاستراحات؟ تهافت الجميع على شراء حلويات ستتعفن قبل وصولنا، خرجت من الحمام واشتريت شاياً مثلجاً، وصلنا إلى الكراج كانت أختها بانتظارنا، صوت جورج وسوف يملأ السماء، عرفت أنه حمصي مؤخراً، كنت أخاله لبنانياً، ذهبنا إلى مقهى في"طريق الشام "قرب الجامعة، أكلنا وجبة سريعة على عجل، هنا يصنعون السندويشات الغربية بالخبز المرقد، وتقريباً جميع الأنواع لها نفس الطعم. أوصلوني إلى باب السكن وذهبنا بعد أن اتفقنا على موعد في المساء، بحثتُ عن سعد وأخبرني أنهم اضطروا إلى تسليم غرفة صديقي حيث أنه قد أنهى فحصه وعاد إلى دمشق، سعد نفسه أيضا سلّم غرفته وسيغادر إلى مدينته الليلة، بدأ يدلني على الأماكن اللطيفة في المدينة وعن أفضل الفنادق حسب أسعارها.

 التقيت بناي في "الدبلان" حسب نصيحة صديقي، عشاء خفيف ثم تمشينا قليلا، الشوارع نظيفة، السيارات أنيقة اللون، والإعلانات منظمة. جلسنا في مقهى "البيت الإيطالي" في شارع الملعب، شرحت لها أني سأذهب إلى فندق، واقترحت أن أنام عند أصدقاء أختها لكني رفضت، كانت الأسعار رخيصة مقارنة بدمشق، بدأنا نتوه في شوارع مدينة لا نعرفها، أتصل بصديقي كل حين أسأله أين أذهب وهو يقول أنها مدينة مملة. كانت سينما الكندي أمامنا دخلنا وحضرنا فيلماً مصرياً، كنا وحدنا ثم دخل رجل بشاربين كثين وغطا في نوم عميق في زاوية القاعة.

 جلسنا في الحديقة المجاورة بعدها ثم عدنا إلى حيث تلتقي بأختها واكتشفنا أن تلك الحديقة كانت مقبرةً فيما سبق. سعيت بين الساعتين القديمة والجديدة أكثر من ثلاث مرات جلست في قهوة قرب الساعة القديمة، كانت الساعة قد أصبحت الثالثة تأملت أن أجد مكاناً للسهر حتى الصباح، لكنهم ينامون مبكراً، أخذت غرفة بسيطة بسرير وخزانة، كان هناك بعض الرجال المسنين يلعبون طاولة الزهر عند الاستقبال، دلوني على غرفتي واستمروا في اللعب كانت النتيجة 120-241.فندق صغير يحوي أربع غرف، الطلاء متقشر، الحمامات تشكو سوء التصريف، كان معي حقيبة صغيرة للثياب الداخلية وقميص آخر، ومزيل العرق، لا أزال أفكر في الشرفة وهل من أحد يقف عليها الآن؟

 احتسينا القهوة مبكراً وذهبنا بتاكسي إلى "الحميدية"، هنا السائقون يتقيدون بالأجرة ويضعون حزام الأمان، لا يدخنون، بدأنا نتجول في الحميدية وتناولنا إفطارنا في "قصر الآغا" لم يكن هناك أحد، وانتهزت الفرصة لتقبيلها،قابلت مبادرتي بلطمة على وجهي، مع كثير من الدلع، تطاولت رؤوسنا بين الجموع لنشاهد تدريباً لجوقة الكنيسة، مضى النهار بطوله ونحن نتوه ونتصل نسأل عن أماكن تستحق الزيارة، حظينا بوقت ممتع مع غرباء المدينة الذين يحكون لك النكات عن أنفسهم.

 تلك الليلة تحادثنا عن العودة في الغد وكيف أننا لا نستطيع التأخر ليلاً هناك فهي تعود لمنزلها مبكراً، تبادلنا بعض الهدايا، تقاسمنا تذكرتي السينما، وتذكرتي باص النقل الداخلي، هنا يثقبون البطاقة بدلاً من قطعها، كان قصر جوليا في تلك الليلة هادئاً مطرزاً بالنجوم، الطاولات متباعدة، أرض الديار كبيرة جداً، الجراسين يقفون في الزوايا ولا يتحركون إلا عند الإشارة، شكل المكان قريب لرقعة شطرنج، ودعتها وطلبت مني أن آتي صباحاً كي أشرب القهوة التي تعدّها هي، لا أحب القهوة بعد. كنت قد أنهيت حجزي في الفندق، "طريق الشام" مكان موحش، لم أفهم جغرافيا المكان بعد، كنت قرب السكن وكان مقهى انترنت يتوهج إعلانه على الشارع "سهرة مسائية بـ100 ليرة"، فكرت في نفسي أن أستمر في تجولي وأعود له في نهاية الليلة وبذلك أوفر أجرة الفندق، تناولت عشائي، صعدت في تاكسي وأخذت جولة في المدينة، لم أجد حديثاً مع السائق سوى أن أسأله عن أماكن تستحق الزيارة، علماً أنني مغادر في الصباح، نبهني إلى ضرورة زيارة القلعة ووادي الذهب، ووضح لي أني أضعت اليومين في الأماكن البرجوازية التي تشبه دمشق.

 قضيت أكثر من ساعتين معه، جبنا المدينة أكثر من اربع مرات، أنزلني عند الساعة القديمة جلست هناك أراقب الناس.

 داهمني النعاس وفكرت بأن أذهب لفندق لكن بقي بضع ساعات ولم يتبق معي مال كافٍ للفندق وللعودة إلى دمشق، جددت طلبي وبعد نصف ساعة أخبرني عامل القهوة أنهم سيغلقون وأن بإمكاني التمدد بينما ينظفون المكان، استلقيت في الداخل لم يكن بينهم كرد، كانوا يضحكون ويحكون النكات، بدأت التطفل على الفنادق الغالية والرخيصة أسأل عن الغرف وأفاصلهم على السعر وأعتذر في النهاية كوسيلة لإمضاء الليلة، عرض أحدهم علي النوم مع شخص بمبلغ زهيد ورفضت، فبانت كذبتي استقليت تاكسي وذهبت لمقهى الانترنت كان مجموعة من الشبّان يصلّون الفجر جماعة . حادثت صديقين عبر الماسنجر وبعد ساعة أيقظني أحد الشبان وقال لي بإمكانك النوم في الداخل قلت له أن يبقي الكمبيوتر على حسابي، أنت بالجامعة ؟قال لي، رددت، سلمت غرفتي ولم أجد حجزاً لدمشق، قال بسيطة تحصل كثيراً.

 الجرافات تربط الشرف باليواطر وتجذبها إلى الأرض، الشوارع تبدو كغابة قلمت أغصان أشجارها، الجميع مختبئ في الداخل، لن يعود بإمكاننا الحصول على تحذيرات بشأن المصائب. أيقظني الشاب وقال لي أن السهرة تنتهي في السادسة، وأنهم يغلقون حتى الثامنة، لم يقبل أن يأخذ مني مالاً. الصباحات الربيعية باردة بشكل غير متوقع، كانت ثيابي خفيفة ولا أجد أحداً في الشارع، اليوم جمعة لا أزال نعساً، لن أجد رحلة قبل العاشرة، ولا مكان للذهاب إليه كان جوالي يشير إلى انتهاء شحنه، لو أنني بعته البارحة كان أفضل. وجدت نفسي في الحديقة/ المقبرة، جلست هناك واستلقيت عقدت حقيبتي على يدي، ووضعت سماعات في أذني وشغلت الموسيقى كي أستنفذ الشحن، أرتجف برداً والضباب كثيف، ورق الشجر يتساقط على وجهي، نظرت إلى البعيد، كان رجلان يحملان البنادق يقتربان مني، وسألوني إن رأيت حجلاً قد سقط، نفيت وأنا أرتعد، طلبوا مني النوم بعيداً لأنهم سيصيدون هنا. على مقربة من بوابة الحديقة كان رجل وحوله فتية صغار يتحدثون، حييّتهم وجلست قدموا لي القهوة فشربتها بامتنان، اتضح أنه وكيل لشركة تنظيف عامة وقد حاز على عقد المدينة. قسموا الأحياء فيما بينهم، فتاة وحيدة كانت بينهم تحمل رضيعاً، أولى لها مهمة المراقبة في الشوارع، شحنت جوّالي عندهم، وتركتهم دون إظهار أنني مستغرب لما يحصل.

 تهت بين الأزقة مجدداً وجدت خيمة عزاء، واسيت أصحاب المصيبة وجلست، احتسيت القهوة المرة، لم يكن هناك مقرئ، بضع رجال يدخنون ويتحدثون عن الميت، خرجت من الخيمة، ارتطمت برأسي زجاجة ماء، نظرت للأعلى، كانت شابة ترتدي السواد وتشير لي أن أقدم الماء للخيمة، أومأت وقدمت الماء للمعزّين . خرجت ثانية قاصداً السكن الجامعي، كانت لاتزال تقف على الشرفة. ناي حضرت القهوة فور وصولي اتكأنا على جدار وأثنيت على قهوتها بأنها أطيب ما ذقت في حياتي، أغلب ما ذقته كان في هذه الرحلة، جمعنا نقودنا بعد محاسبة التاكسي الذي أوصلنا وأمتعتنا للكراجات، كانوا يكفون للوصول إلى كراجات البولمان في دمشق فقط.بدأت أتصل بأصدقائي واحداً تلو الآخر، لم يجب أحد منهم، ناي كانت مستاءة من تصرف أختها فقد كانت قد تصرفت بما تحملانه من مال.

 أعاد صديق لي الاتصال ووضح لي أن "شلتنا" بأكملها في جبل الشيخ تشارك في حملة تشجير، وذكر لي أن صديقي "الذي كان من المفترض أن أقيم في غرفته" لم يذهب معهم. بقي خمس دقائق وتصبح الساعة السادسة كنا قرب القطيفة، لم يكن بقي معي رصيد يكفي مكالمة لكن اليوم جمعة وقبل السادسة تكون المكالمات بسعر أرخص، أجابني صديقي بأن رجله مكسورة، لكنه سيأتي على أية حال. التقينا وأخذت منه مالاً كي أوصلهن، ووعدته بأن أتصل به لاحقاً.

 لم تنم ناي تلك الليلة جيداً، طوال الطريق كنت أداعب كفها بأصابعي فتغفو على كتفي، واجهنا وحشية الأرق بأصابعنا المجردة من أي سلاح .تركتهن قرب منزلهن، وأكدت أن طريق القطار أجمل، في المرة القادمة سنذهب في القطار، ذهبت إلى مقهى الجليل في آخر شارع اليرموك لأشاهد مباراة إيطاليا، ودعت البطولة يومها.

 زكي حافظ على عمله، بعد تملص صاحب المقهى من قرار منع التدخين في الأماكن العامة. بعدها بأشهر كنا نعتزم الذهاب إلى جبلة للحاق بمسير ليلي في الطبيعة، لم نلحق بالرحلة، وجدت رحلةً إلى حمص فذهبنا جلسنا في الكراجات عشر دقائق، شربنا القهوة في الاستراحة، وذهبنا بباص إلى جبلة، لم نذهب في القطار، لم نذهب إلى وادي الذهب، لم نذهب إلى قلعة الحصن، لم يكن وداعاً لائقاً.

2010

حمص - دمشق

_________________________
** أحمد ابراهيم - كاتب فلسطيني.
* الصورة من فيلم (Wild Strawberries) للمخرج "انغمار بيرغمان". 


تم عمل هذا الموقع بواسطة