جثىبركات أمام حقيبته الزهرية وراح يدوّن بياناته على البطاقة المرفقة، سجل اسمه بخطمرتبك لطفل في السادسة من عمره، لقد أجرى اليوم سبراً لتحديد أي صف سيرتاد فيالمدرسة، كلمة المدرسة لا تزال مشتتة بالنسبة له، أمه نائمة بجانب السبورة،وعائلتان تحتجبان خلف الستائر، بجانبه مقعد يضع في درجه ثيابه الداخلية، سيداوم فيالصف الرابع أمه لم تمانع، بالنسبة لها هذا اختصار لبعض الأعوام التي سيكون عبئاًفيها قبل أن يجد مصلحةً ما، تحلّق حوله الأساتذة صباحاً وهم يختلفون بأي صف يجبإدراجه، والجميع مصدوم أنه يقطن مع أمه في المدرسة التي تحولت إلى مركز إيواء، شعرالفتى بالخجل لأنه ذكي، كمن أكل حلوى ليست مخصصة له.
تباطأفي الإجابة على سؤال المدير عن جداء رقمين، كان هذا اعتذاره. سجّل اسمه وصفه علىالبطاقة ولا يزال حائراً أي مدرسةٍ يجب أن يكون اسمها على الحقيبة فقد تم توزيعهاعليهم في هذه المدرسة بينما سيرتاد تلك.
لنيذهب اليوم من المدرسة، البرد يسبب كل العلل هكذا قالت أمه وهي تندب حظها، تكوّرعلى نفسه بانتظار العيادة المتنقلة، الأم أوصت رفقاء سكنها الاعتناء بطفلها المريضبينما تذهب لتحضر الماء، لا يوجد تاريخ على هذه السبورة وبركات يحاول جاهداً تذكراليوم أو الشهر، أخذ الحبات الصفراء والحمراء من الطبيب وتشاركها مع جيرانه، باتوايضعونها في المرطبانات كي يستعملوها عند الحاجة فهي توصف لكل شيء تقريباً، الحمراءصباحاً والصفراء مساءً، بركات لا يحب هؤلاء الغرباء الاعتياديين في كل أسبوع، يسببونالمشاكل والشجارات بأغراضهم التي لا يفهم قيمتها، سمعهم يحذرون جيرانهم من الإنجابوأن لا مقدرة لأحد على مزيد من الأطفال، وسيكونون فريسة للجوع والمرض. هذه المرةلم يعرف كيف يعتذر، بكى تلك الليلة لأنهم لم يحذروا أمه من إنجاب المزيد بدى لهالأمر كأن الأوان قد فات، لم يفهم دوره لكنه عرف أنه مذنب، وشعر بالأسى لأجل أمه.
التاريخواضح على السبورة، بدأ يفكر منذ الآن بالصيف وكيف سيعرف التاريخ، يخاف بركات أنيبدأ العام المدرسيّ القادم وهو في المدرسة الأخرى الخالية من الوقت، لا يوجد عددكبير من الطلاب، هو الأصغر بين الجميع، وهناك من يكبره حتى بخمسة أعوام، يجلس هوفي المقعد الأول لأنه لا يملك شارباً، الطلاب ذوو الشوارب يجلسون في آخر القاعة،الفرصة بين الحصص هي الفرصة ليفهم بناء المدرسة، هنا يستعملون الغرف للتدريس،ومكان غسيل الثياب للرياضة، لا يوجد حرّاس على الباب إنما كشك صغير لبيع الحلوىوالفطائر، هنا يضعون الموسيقى في الاستراحات بين الحصص، عند أحد الأدراج جلس معبعض زملاء صفه ذوي الشوارب، وهم يتهامسون يتبادلون الضحك وبطاقات مختلفة، لم تطلالمسرحية كثيراً، عاد إلى مدرسته متعرقاّ، والدم يتدفق إلى رأسه دفعات متقطعة كلماتذكر المجلة التي قلّب صفحاتها، فتاتان عاريتان تتبادلان القبل فيما بينهما ومعشاب حليق الرأس، ويتبادلون الأدوار والأماكن، قال له زميله أن هذه المجلات تسببالشوارب وحبوب الشباب، بينما أضاف آخر أن أباه وأمه فعلا هذا، أمر جعل بركات يغضب،ويبدأ عراكاً لم يطل قبل أن يأخذوه جانباً موضحين له سر الإنجاب وأن عليه أخذالأمور بروح رياضية. تقبل بركات الإهانة مقابل أن يأخذ المجلة معه لمدة يوم ولنيخبر أحداً بفعلتهم.
العدالةالجزئية ترضي الجميع على عكس العدالة المطلقة، تعلم هذا من المدرسة الأخرى.
منكانت أمه الثانية؟ هو يتفهّم أن أمه لا تتحدث أمامه عن أبيه، أو أمام أي شخص آخر،لكن هذه المجلة عصفت بكل ما يعرفه عن أسرته، هذا ما كان يحذّر منه الأطباءوالممرضات لأنه يسبب الإنجاب، يغمض عينيه جاهداّ ويرى وجه أمه بين ساقي فتاةالمجلة السمراء، وجه أبيه كما يذكره من الهوية يشبه وجه الجميع هنا، يتحول بينوضعية وأخرى تنمو له ذقن عند الجلوس، تنبع منه رائحة الرصاص وهو مستلق، يذكر سطحبيتهم جيداً ويذكر يدا أبيه جيداً لماذا لم ينظر إلى وجهه يومها؟ حين يسأله أحد عنأبيه يقول أنه كان يعرفه عندما كان صغيراً. تقلب في مكانه وبدأ يتنفس زفير أمه،كان فكها متدلياً، ترى هل كانت هذه أمه الثانية، وأن له أباً وأماً آخرين؟ هل يبقىهنا ينتظر هويةً أخرى إلى جانب أبيه، أم يذهب باحثاً عن العدد التالي من المجلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أحمد ابراهيم - كاتب فلسطيني
** الصورة من فيلم "حمامة تجلس على غصن تتأمل الوجود" للمخرج: روي أندرسون.