في الزوايا البغدادية، حيث المقاهي لا تتركك وحيداً بل تؤنس الطريق من بدايته إلى النهاية، ترافقك من عمر إصغائك الأول إلى الرحيل، حيث في كل مقهىً مقرئ مقام يقرأ النبض الدافئ لبلاد الرافدين، حقيقة الحزن هناك.
لم يكن "يوسف عمر" أقل شأناً من أستاذه "القبانجي"، وُلد عام 1918 في منطقة "حسن باشا" في العاصمة بغداد، نشأ في بيت متعلق بالغناء والمقام بشكل خاص، حيث كانت أسطوانات المقام تصدح دائماً بأصوات الكبار، وبأصواتٍ عربية أخرى، منذ المدرسة الابتدائية ظهرت قدرته الفريدة، حيث تنبه لها الأستاذ "عبدالله حلمي" مدرس الإنشاد.
صداقة العائلة وقربهم من الكبير الراحل "محمد القبانجي" أتاحت ليوسف الاستماع للمعلم دون مايكرفون، وكما وصف تلك التجربة بأنها أهم ما حدث له في فتوته ودفعته للتعلم والتعلق أكثر بقراءة المقام، فكان من أوائل المتتلمذين والسائرين على درب "القبانجية" في المقام.
ويُذكر عن "يوسف عمر" تأثره بالكبيرة "سليمة مراد" حيث كان يستمع لها في المقاهي حيث تقدم أغانيها، وكانت أول صوت أنثوي عظيم عرفه وتأثر به.
لم يكن شأنه مقتصراً على المقام، فأخذ الأبوذية من المطرب "عبد الأمير الطويرجاوي" الذي قدم قرابة ثلاثين طور من أطوار الأبوذية، فكان كذلك ذا أثر كبير عند "يوسف عمر".
دخل "يوسف عمر" الإذاعة عام 1948 وكانت إحدى أحلامه، بتحريض من خبير المقام "سلمان الموشي" ليقدم الاختبار الذي كان أصعب ما يمكن أن يتعرض له مطرب أو قارئ مقام حينها، فكانت اللجنة بقيادة "يوسف زعرور" الذي لم يتساهل مع البغدادي الفتي، فطُلب منه مقام الصبا (الذي كان ميزان اختيار حيث لا يتقنه سوى المتمكن والقارئ الحقيقي)، واجتاز الاختبار واعتُمد في الإذاعة قارئاً ومطرباً.
قدم في الإذاعة أول مرة الرست (مقام رئيسي كبير) بقصيدة ابن الفارض (منسوبة لبهاء الدين زهير):
غيري على السلوان قادر ... وسواي في العشاق غادر
لي في الغـرام سريرة... والله اعلم بالسرائر
ومُشبه بالغصن قلبي ... لايزال عليه طائر
حلو الحديـث !!و إنـها ...لحلاوة شَقت مرائر
أشكو وأشــكر فعله ... فأعجب لشاكٍ منه شاكر
لا تنكروا خفقان قلبي ... والحبيــب لدي حاضر
أسلوب "يوسف عمر" امتاز بالصدق التام، حيث نقل التراث المقامي من السابقينِ إلى اللاحقين دون زيادة أو نقصان، وغناها بروح بغدادية صرفة، وكان مرجعاً للتعابير البغدادية في الغناء عموما ويضربه المدرسون مثلاً لطلاب المقام بسبب السهولة في أدائه للمقامات، حيث كان واضحاً في تقسيمه لمواد المقام الأولية خلال الغناء، فأصبح أنسب صوت ومقسم مقامي للتدريس.
تقليدية يوسف عمر أنه بقي يغني المقام والتراث معاً، فلم يستقل بأي منهما، مما جعله مقامياً بستجياً ( أغنية التراث من غير المقام).
بصوته الذي يعد من فصيلة "التينور"، نقل المقام للعالم كله، حيث تلمس خطواته من "القبانجي" وغنى المقامات البغدادية كلها، وكانت الموسيقى مع "جميل بشير" الموسيقار الكبير، قد أخذت شكلاً جديداً مع "يوسف عمر" حيث أعطيت مساحةً متناسبة مع الغناء، على عكس السائد الآن حيث الدور الكلي للغناء، حيث لا مقدمة تهيء فتصبح مجرد تابعة شكلية.
أثر "يوسف عمر" كان عميقاً في ذاكرة العراق، حيث كان ناقل المقام من المقاهي والبيوت البغدادية، ليصبح عراقياً شعبياً في كل الأروقة والزوايا، كتفاً بكتف مع معلمه "القبانجي".
في عام 1956 دخل التلفزيون واشترك في فيلم "سعيد أفندي" مع الراحلة الكبيرة "زينب" و"يوسف العاني" و"جعفر السعدي"، وغنى "الصبا" في الفيلم، الذي جعله مسيطراً والوجه الأكثر تداولاً على الشاشة، مما أثار حفيظة البعض.
حياة "يوسف عمر" كانت غير تقليدية، حيث كان سجيناً لخمسة عشر عام بتهمة القتل، وفي السجن طور المقامات وقرأها، وخرج وغنى الابوذية والتراث، وأصبح مطرباً من العراق الذي يقدم الحزن في كل شيء، حتى الماء القادم من رافديه
فترة الانقطاع
يقول الفنان والخبير الاستاذ الرجب، نحن الآن بعد موت الفنان "يوسف عمر" في فترة انقطاع، ويقصد بهذا الانقطاع عدم وجود قارئ مقام يفهم الأنغام والتركيبات النغمية، ويفهم لماذا صيغت أو صنعت هذه المقامات بهذا الشكل، بل يوجد قراء فقط، إن المقام هو الارتجال الكامل الذي يعتمد على السمع وينطق بالحنجرة، وهذا أحد الأسباب التي تجعل كتابة المقام (اي تنويته) عملية صعبة، لأنه كلما زاد الارتجال قل المكتوب والعكس صحيح . و من اللات الموسيقية المرافقة للمقام هي : السنطور و الجوزة و الطبلة و الدف و أحياناً آلة العود.
اعتزل يوسف عمر الغناء في 1985 بسبب المرض ورحل في 15\7\1986، حيث يتردد في أذهان عارفيه ومحبيه "مات اللمبجي*"، لمبجي التراث والمقام الجميل.
_______________________________________________________________________
*مات اللمبجي : أحد أغاني يوسف عمر، واللمبجي هو مشعل الفوانيس والأضواء في الطرقات.