أعلن هاياو ميازاكي عن نفسه متشائماً، خائب الظن بسبب القسوة التي يمارسها البشر وهو على قناعة أن العالم ذاهبٌ في الإتجاه الخاطئ. إن أفلامه الشهيرة بفتنتها والمعروفة بأنها محاطة بهالة من السحر واحتفائها بعجائب الطفولة ،لا تظهر خجلاً في تصوير ظلمة العالم
ولكن استديوهات غيبلي تقدم أكثر من مجرد نموذج بسيط من من الفانتازيا التهربية، إنها تنقل حس بالمسؤولية إلى الأطفال ليعيشوا في ذلك الواقع البديل. في مذكراته "نقطة البداية" Starting Point كتب ميازاكي:
" أن تولد يعني أن تكون مرغماً على إختيار عصر، مكان، حياة. أن تكون موجوداً هنا يعني أن تخسر إمكانية أن تكون أنفُساً مُحتملة غير معدودة. مع ذلك لحظة الولادة لا مجال للعودة، ولذلك االسبب على وجه التحديد أعتقد أن أفلام عوالم الرسوم المتحركة الخيالية تمثل بزخم أحلامنا و أمانينا. إنها تُظهر لنا عالم الإمكانيات الضائعة "
الحرب العالمية الثانية
بلا شك بعض من الظلمة التي نراها في أفلام ميازاكي تبزغ من جراء ترعرعه في أجواء الحرب العالمية الثانية في اليابان. خلال سنوات الحرب، لقد شهد ميازاكي بأم عينه تحطم تقاليد و شموخ و إيمان حضارته الأصيلة التي لم يسبق أن مسها أحد، وبينما نهضت بلاد مزدهرة جديدة من بين الركام لم تعد اليابان إلى سابق عهدها ما قبل الحرب. على الرغم من أن عائلته كانت دائماً في مأمن وإكتفاء إقتصادي إلا أن دمار ووحشية هذه السنين دمغت نفسها على أعمال ميازاكي كأخصائي رسوم متحركة. هنا بعض من الطرق التي يتجلى فيها الحس بالفقدان في أفلام استديو غيبلي.
الحداد على يابان ما قبل الحرب
"الريح ترتفع" The Wind Rises كان الكارثة التالية للنكبة، بعد الزلزال المدمر الذي أطاح بجزء كبير من اليابان من على وجه الأرض، وضَعت الحرب العالمية الثانية نهاية حتمية لأسلوب الحياة الياباني المنعزل. يظهر الفيلم محاولة لبناء حضارة جديدة مطموسة بالقيم الغربية وهو الشيء الذي اختبره ميازاكي مع عائلته في البدء
إنتاج آخر حديث من قبل استديوهات غيبلي "حكاية الأميرة كاغويا" The Tale of Princess Kaguya وهو في جوهره تمجيدٌ للأساطير والعمارة والحرفية والتقاليد الإمبراطورية اليابانية، بينما المحيط المعولم أو التاريخي يجعل معظم قصص غيبلي في متناول الجمهور عالمياً، القصص التي تقع أحداثها في اليابان تبعث تبجيلاً كبيراً لأيام الماضي الذهبية. بالفعل إن شخصية الجدّة التي ما تنفك تظهر في الأفلام هي تجسيد للتقاليد.
إن جدّات ميازاكي (واللواتي عادةً ما ترتدين الزي التقليدي) تملن إلى تجسيد حكمة وبساطة الأزمنة المنصرمة، وإن ألقينا نظرة عن كثب سنلحظ كيف أنهن الوحيدات التي تظهرن بمظهر الشخصيات الآسيوية، إنهن تقمن بتزويد الأبطال اليافعين بالمشورة التي يحتاجونها سواء أكان ذلك في أدوار المربيات، كالجدات في فيلم "جاري توتورو" My Neighbor Totoro أو "من أعلى هضبة بوبي" From Up on Poppy Hill أو بمزيج أكثر غموضاً كشخصيتي التوأم "يوبا" و "زانيبا" في "المخطوفة بعيداً" Spirited Away.
البشر ضد الطبيعة
عقب تجربته مع فترة الحرب انتهى المطاف بميازاكي في كره كل ما هو صناعي أو ميكانيكي أو رقمي، كانت نظرته إليهم كأسلوب حياة خاطئ يلوث البراءة والتقاليد و الطبيعة. لم يرضخ ميازاكي سوى في أواخر مسيرته المهنية إلى الوسائل المريحة في صنع الرسوم المتحركة الرقمية. وحتى يومنا هذا تتمحور أفلامه حول الحاجة إلى العودة إلى أسلوب حياة طبيعي وريفي أكثر.
في "فقط البارحة" Only Yesterday تقوم سيدة الأعمال الناجحة "تايكو" بمغادرة طوكيو لتجد ما خلقت لتمارسه في الزراعة التقليدية اليابانية. كل ما قدمته المدينة (موسيقى الغرب، الإكتفاء المالي، جميع وسائل الراحة الحديثة) كل ذلك يعتبر باهتاً بالمقارنة مع قطف العصفر وسط أناس ثمانينيين في مكان لا يتوفر فيه التيار الكهربائي. بحسب مجلة "فوكس" Vox magazine تدور أحداث الفيلم حول "فتاة يافعة تكبر و إمرأة شابة تتساءل عما إذا ضلت الطريق إلى لب جوهر ذاتها" وهذا هو السؤال ذاته الذي يحثنا ميازاكي لطرحه على أنفسنا.
"تايكو" هي إحدى بطلات كثيرات من بطلات غيبلي اللواتي يحاولن إعادة صلاتهن بالطبيعة. في "نوسيكا وادي الريح" Nausicaa of the Valley of the Wind، ما تنفك "نوسيكا" تحلّق إلى غابة مسمومة وتقوم بزرع أعشاب سراً تحت الأرض وذلك في محاولة لإعادة التوازن البيئي إلى كوكبها. في "توتورو" تترك العائلة طوكيو خلفها بحثاُ عن الصحة والنجع في الريف. بينما في "خدمة التوصيل لدى كيكي" Kiki’s Delivery Service تذهب الساحرة الشابة إلى كوخ في الغابة لتعاود التواصل بسحرها.
أما "صوفي" المسحورة في "قلعة هاول المتنقلة" Howl’s Moving Castle تترك بلدتها المثقلة بالحرب خلفها وتصبح في ريعان الصبا من خلال الحديقة التي يهديها إليها "هاول". إنه إنتهاك لطهارة الطبيعة وبراءتها كطفلة، عندما تلوح الحرب في الأفق.
فقدان البراءة
تقوم "صوفي" بإدارة متجر والدها المتوفى الخاص ببيع القبعات بينما تقوم زوجة أبيها باستغلالها وخداعها. في "المخطوفة بعيداً" Spirited Away تقوم "شيهيرو" بتوقيع عقد عمالة الأطفال لإنقاذ والديها الشرهين من الذبح. تقوم "نوسيكا" الطفلة المحاربة بقتل عدة أشخاص إنتقاماً وذلك في فورة غضب، وفي فيلم "عالم أريتي السري" The Secret World of Arriety تتحمس الشخصية صاحبة النفوذ للمجازفة بحياتها من أجل إستكمال تقليدها العائلي والذي هو السرقة.
يلقي ميازاكي نظرة ثابتة على أكثر حقائق الحياة ضراوة ولربما ذلك هو جزء من الميزة التي تجعل أفلامه جذابة، إنه لا يهدئ من روع جمهوره اليافع، ويقدم الأسى مصحوباً مع الأمل والثقة التي بوسع الطرفين تحملها.
أبطاله الأطفال مكتملو التكوين وشخصيات معتمدة على نفسها وتقوم برعاية والديها ومجتمعاتها وبيئتها. لعل أفضل مثال هو "أومي" في "من أعلى هضبة بوبي" From Up on Poppy Hill، إنها لا تقوم بالطهو فقط لعائلتها (وللنزلاء أيضاً) ولكنها متفوقة أيضاً في دراستها وتساهم في جريدة الطلاب وتنقذ المركز المجتمعي من التهديم. ولكن هل يأتي حس المسؤولية هذا على حساب خسارة إطلاق العنان لطفولتها؟
في "توتورو" تكون "ساتسوكي" و "مي" على دراية تامة بأن والدتهما قد تخسر صراعها مع السل، على الفتاتين أن تتعلما كيف تعتنيان بنفسيهما ووالدهما التائه، ولكن ذلك لا يشكل عائقاً أمام قدرتيهما على اللعب والإيمان بالسحر أو إكتشاف البهجة، حالتهما تشبه حالة ميازاكي نفسه (التي أمضت والدته سنيناً في المستشفى تصارع المرض عينه) تتعلم "مي" و "ساتسوكي" الإحتفاظ وفقدان براءتهما في الوقت عينه.
صوفي في "هاول" تبلغ من العمر 18 عاماً فقط، ولكن حياتها كانت خالية من المتعة ومتمحورة حول المسؤولية لدرجة أنها تشعر بالراحة في جسد امرأة تسعينية أكثر من جسدها ذاته، ولكنّها في النهاية تعيد إكتشاف حبّها للعب كإمرأة مسنة وتتعلم أن تكون هنئة مجدداً، مظهرةً لنا كيف أن الإثنان ليسا بالضرورة (العمر واللعب) مرتبطين ببعضهما البعض بشكل متبادل.
النساء والأطفال
في عالم ميازاكي النساء والأطفال في مرمى عن الأعضاء الضعاف الذين هم بحاجة إلى حماية من المجتمع. بالعكس، شخصياتهم قوية لا تخشى المخاطر أو العمل الجاد أو المواجهة. ولكن هذا العنفوان يأتي من مكان رقيق ويمكنهم من تعزيز السلام والإتحاد مع الطبيعة.
من الصعب التفريق ما بين السحر والطبيعة في أفلامه، والأطفال (الفتيات على وجه الخصوص) لديهن صلات مع هذه القوى والتي يعجز عن إمتلاكها البالغون. ف"كيكي" تفهم ما تقول قطتها "جيجي" و"ساتسوكي" و "مي" بإمكنهما رؤية "توتورو" بينما لا يستطيع ذلك والدهما. المسؤولية الكبرى عند "نوسيكا" ليس أن تحكم مملكتها بل أن تردم الفجوة بين حضارتها الصناعية والمتنازعة من جهة و الطبيعة الأولية و البرية من جهة أخرى.
يرى ميازاكي دوراً جوهرياً للنساء القويات القياديات في عمليّة الإنتقال نحو أسلوب حياة أقل رقمية وأقل صناعية. الأميرة "مونونوك" و"نوسيكا" محاربات ولكن نيتهنّ الخفيّة هي إحلال الوئام ما بين البشر والطبيعة. تحاول "صوفي" عدم التورط مع المفجرين حتى تدميرها لعالمه الميكانيكي. لقد أنجزت تحوّلاً كاملاً، لقد أعطاها حديقةً وأعادت بناء القلعة ككوخ ريفي و أشجار في الفناء الخلفي.
التحقق من الواقع
كان والد ميازاكي يملك معملاً لتصنيع أجزاء للطائرات الحربية والتي أسبغت على "هاياو" الطفل الإفتتان بالطيران، وأيضاً الحسّ بالمسؤولية. إن شعوره بالأمان والإطمئنان خلال الحرب تركته يتمنى لو أنه وعائلته قد بذلوا أكثر في سبيل مساعدة المحتاجين ودرء المجزرة. "الرياح ترتفع" The Wind Rises هو محاولة للتقريب ما بين هوسه بالطيران و بغضه للحرب، وأيضاً لدفع ثمن إسهام والده في تصنيع الطائرات المقاتلة.
إن سلميّة ميازاكي دائماً ما كانت جليّة، لقد رفض حضور حفل الأوسكار الخاص به لأنه كان معارضاً لإحتلال العراق. وفي سعيه لتعليم الأطفال حبّ الطبيعة، تدور الأقاويل حول عمله لبناء حديقة بيئية مبنيّة على مواضيع غيبلي . إنه يؤمن أنّه من واجب الأطفال إحلال السلام بين البشر والطبيعة، إن المعلم الأكبر معنيّ في مساعدة الأطفال على أن يكبروا مع حس من المسؤولية. ومع نجاح أفلامه في أرجاء الكرة الأرضية، بات صوت رسالته مسموع بصخب وجلاء.
إننا بحاجة إلى أمثال "صوفي" و "نوسيكا" و "أومي" وحتى البالغين من أمثال "تايكو" بإمكانهم إعادة إكتشاف ذواتهم في جوهرها، ولكن، وفوق كل شيء إننا بحاجة إلى إيمان ميازاكي العنيد.
__________________________________________
** سرار شليويط - كاتبة سورية
* رابط المقال الأصلي (https://moviepilot.com/posts/2766620)
* الصور من الانترنت