في منطقة "الحيدر خانة"، عاش "ناظم أحمد غزال" المولود عام 1921 في اليتم والفقر، فقد والده في سنين مبكرة ثم والدته، لتحتضنه خالته "مسعودة"، التي كانت تأخذ بيده إلى المدرسة المأمونية حيث بدأت ملامح اهتمامه وجده في مادة النشيد، لديه شغف الاستماع وتتبع الأصوات في الموالد الدينية أو المقامات في المقاهي، حيث كان يلاحق المُبهر الأول والأهم له "محمد القبانجي" أينما ذهب وأينما قرأ المقام أو غنى.
وسط ذات الفقر أنهى "الغزالي" دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية، وقرر الانضمام للأفواج الأولى من طلاب معهد الفنون الجميلة، إلا أنه لم يكن قاصداً المكان كمغنٍ كما يعتقد الجميع، كان ذاهباً نحو التمثيل المسرحي، فتلمس دربه على يد المسرحي الكبير "حقي الشبلي" الذي دعمه بكل ما يستطيع من مادة ومعنوياتٍ ليستمر هذا الفتى بالعمل، إلا أن الظرف القاهر أجبره على الابتعاد عن المعهد والحصول على وظيفة في مشروع الصمون الأبيض في بغداد، ومن ثم تعين في أمانة العاصمة مشرفاً على المقاهي والكازينوهات والسينمات.
عاد بعد فترة للمعهد نفسه، فتشبث به "حقي الشبلي" وأسند له أدواراً مسرحية، منها مسرحية "مجنون ليلى" للشاعر "أحمد شوقي"، وغنى فيها "هلا هلا هيا .... نطوي الفلا طيا"
كانت بدايته ممثلاً مؤدياً مع فرقة الزبانية، التي ذهبت لتتقدم للإذاعة والتلفزيون، ولاقى هناك فرقة الموشحات العراقية التي يقودها الموسيقار الكبير "علي الدرويش"، ودخلها مع "رضا علي" و"يحيى حمدي" و"محمد عبد المحسن".
ومع الرعيل الأول من الفنانين المتقدمين في الإذاعة، تعلم الموشح الأندلسي والأنغام العراقية.
رافق الجيش العراقي عام 1948 إلى فلسطين مع الوفد الفني الذي رافق طلائع الجيش الذاهبة للمعركة مع الكيان المحتل، للمرة الأولى خارج العراق، وكانت فلسطين هي أولى محطاته، وهناك تعرف إلى "عبدالسلام عارف" ودامت الصداقة حتى بعد تولي الأخير الرئاسة وكانت هناك لقاءات دورية بينهما تتم بعد العودة من فلسطين، حين أكمل الأول مشوار نجاحات كبيرة، والثاني سياسة بلاد لم تعرف الاستقرار والتخبط في زمن الانقلابات.
في هذه العودة التقى بـ "القبانجي" معلمه الأول وبالموسيقار "جميل بشير" الذي أطلق العنان لصوتِ "الغزالي" بأغانٍ عدة تليق بمساحة صوتٍ فريدة آنذاك، فكانت "فوق النا خل" و"مروا عليّ الحلوين" و"طالعة من بيت أبوها".
ومنذ بداية الخمسينيات بدأت أغنيات "الغزالي" تعبر الحدود، فسافر إلى عدة دول، وأقام عدة حفلات في كثير من الدول العربية، وأصبح سفيراً للأغنية العراقية. وبداية الخمسينيات هي الفترة التي شهدت تطوراً وربما انقلاباً ملحوظاً في غالبية مقاييس الغناء في العراق ومواصفاته، وبدأت بوادر الأغنية المتكاملة تظهر مع أغنيات "ناظم" التي نفاجأ اليوم حين نسمعها بوجود لوازم موسيقية ضمن توزيع موسيقي تعدد فيه الآلات الغربية والشرقية، لقد قلب "الغزالي" غالبية مقاييس الغناء في العراق.
حين كان قراء المقام يبتعدون عن "البستة"، اهتم "الغزالي" بالاثنين معاً، فقدم تجديداً في الاثنين، مما عرضه للنقد، وذهب المطربون آنذاك بين معارضٍ لفن "الغزالي" وبين محبٍ ومنبهر بحب هذا الشكل الفني الجديد، فكان "يوسف عمر" يقول: إن ناظم الغزالي لا يجيد المقامات الكبيرة، وليس لديه قرار وكلها جواب عالٍ، وأغانيه شبابية بعيدة عن الثقل المرتبط في المقام.
بينما يرى الكبير "حسين الأعظمي": أن أهم ما يمكن قوله عن صوت الغزالي أنه نقل المقام للعالم، فحين كنت في تونس منتصف السبعينات وبعد رحيل "ناظم"، طُلب مني في جلسة خاصة تقديم المقام العراقي كما غناه "ناظم"، وهنا تماماً أدركت أنه نقل المقام إلى المغرب العربي.
لا يمكن حد عطاء "ناظم الغزالي" بنمط واحد، فهو أخذ من الفن المشترك في الوطن العربي وقدم الأغنية الحديثة وكان تجديداً على المستمع العراقي، وقدم المقام بأمانة خالصة، فكان تراثياً ومقامياً ومجدداً.
في عام 1952 التقى بكبيرة الفن العراقي "سليمة مراد"، وعملا معاً وقادته في مسيرته بعدها، فبعد عامٍ واحد أصبحا زوجين بما يذهب البعض لاعتباره زواج مصالح من "الغزالي"، بينما يؤكد البعض أنها قصة حبٍ خالصة، إلا أن الدور الذي قدمته "سليمة" والدعم المادي والمعنوي لتصبح تجربة "الغزالي" أنضج لا يقف عند حدود المصلحة، كان ثمة حب يُقدم في كل حفلةٍ مشتركة أو عمل فني.
في عام 1963 تلقى دعوة من وزارة الاعلام الكويتية، لإحياء حفلات مناسبة الاستقلال، برفقة "أم كلثوم" و"عبدالحليم حافظ" و"وديع الصافي"، وكانت بداية شهرته هنا في الوطن العربي، حيث كانت هذه الحفلة هي الأكثر تداولاً وعرضاً إلى هذا اليوم.
تلاها عدة حفلات في لبنان وتسجيلات هناك، وألمانيا والولايات المتحدة وايطاليا وفرنسا، وحين عاد من لبنان في نفس العام وكان قد بلغ الثانية والأربعين من العمر، توقف البث الإذاعي فجأة، ولكن ليس لانقلاب عسكري، ولا لحاجةٍ سياسة كما ساد حين يُقال "البيان الاول"، كان البيان الذي اهتزت له قلوب العراقيين جميعاً، "مات ناظم الغزالي"، إثر تعرضه لنوبة قلبية في بغداد، بعد العودة بيوم من بيروت.
في 23\10\1963 رحل وجه العراق الجميل، سفير الأغنية العراقية، حيث لا حمامة تنوح في قربه ولا خلاً فوق يلمع خده، كلما لمع صوته ولا زال.