في بيت النجار وصانع الأعواد، الشماس والمؤدي"عبد العزيز بشير" والد العظماء، كان منير بشير يكبر على الموسيقى، في مدينة الشمال العراقي، الموصل حيث "زرياب، واسحق الموصلي وابن الأثير".
ولد منير بشير في 27\9\1930 وكبر وأمامه الأعواد والموسيقى، كان مستمعاً لكلّ التفاصيل التي تروى حول العود، وحدث ذات مرة ولشدة الولع بالآلة أنّه استغل غياب والده والأهل عن المنزل، ليتسلق "التختة" – الأريكة، ليصل للعود المعلق في صدر الغرفة إلا أن الصغير كان أضعف من أن يحمل هذا الوزن فوقع العود وانكسر، أعاده لمكانه وتوارى حتى المساء، سأله الأب: هل أنت من كسر العود، أجاب: نعم أريد التعلم، كانت سعادة للوالد أكبر من دهشة الطفل الذي ينتظر التأنيب، والذي صنع عوداً مناسباً لحجم الصغير وقتها، لينطلق في درب النقر على آلة الشرق.
حين انتقلت العائلة إلى بغداد عام 1939 كان الحلم موسيقياً خالصاً، حيث كانت النية التحاق منير وجميل بالمعهد الموسيقي الذي أسسه "حنا بطرس"، إلا أن وصول "الشريف محي الدين حيدر" رائد المدرسة التقنية من اسطنبول وتأسيسه المعهد الموسيقي العربي عام 1936 حول الوجهة، فالتحقا بركب الأوائل حيث كان التلاميذ الكبار في العود العراقي خريجي هذا المعهد وعلى يد المعلم الشريف محي الدين حيدر "سليمان شكري ، غانم حداد، جميل ومنير بشير... ".
مطلع الاربعينات جمع منير بشير بين الدراسة في المعهد والعمل عازفاً في دار الإذاعة العراقية، وفور تخرجه عيُّن مدرساً في المعهد، ثم أسس أوائل الخمسينات فرقة الإذاعة العراقية وحين افتُتح تلفزيون المملكة العراقية عام 1956 انتقل للعمل فيه موسيقياً مع أخيه جميل ومخرجاً وأسسا معاً فرقة الفنانة "عفيفة اسكندر" وفرقة "ناظم الغزالي" وغيرهم، ورافقا تسجيلات جميع مطربي العراق في تلك الفترة، حيث كانا الوحيدين اللذين تعلما المقام من الأخوين الكويتي والموسيقيين اليهود.
بيروت:
"وهنا بدأ اسمي يلمع ويتألق، فعقدت صداقات حميمة مع الفنانين اللبنانيين وأخص بالذكر الرحابنة وفيروز"* *(مذكرات منير بشير – موسيقى الحكمة).
يقول منصور الرحباني في وصف التجربة المشتركة مع منير بشير "كانت مكاتب اذاعة الشرقة الأدنى ببيروت ملتقى الشعراء والملحنين، وكان صبري الشريف يدير القسم الفني بها، ويوما التقينا بمنير بشير، وسمعنا النغمات الي بتتكسر عالصابيع متل موسم نجوم مدهية، كنا كلنا بالبدايات وعم نفتش عالجمال، ولحظة الجمال اذا ما عرفت تصيدتا بتهرب، واتفقنا كلنا انو لازم يصير حدث جديد بين صوت فيروز وعود منير، وكان تعاون صار حالة جمالية بعدها لليوم بالرغم من مرور 40 سنة، بعدها شعلانة بنضارة صوت فيروز وعزف منير المرهف" ثم يضيف "العازف مش مجرد مؤدي" "كان عبقري بيمتزج عندو العزف بالخلق الارتجالي" " بطل من أبطال العراق".
حين كان يؤدي "منير بشير" مع فيروز والرحابنة، دوزن العود على صوتها، وفي أحد المهرجانات، لم يتحمل وجه العود الضغط، فتقطعت الأوتار، مكنته دراسة التشيلو من وضع خطة لتصميم عود "منير بشير"، ذهب إلى أفضل مصمم وصانع أعواد، الكبير "محمد فاضل"، فطلب منه ربط الأوتار بآخر العود، أي وضع جسراً متحركاً تعبر من فوقه الأوتار ليصبح الضغط على آخر العود، وأضاف الفتحات البيضوية وجعل قياسه أصغر، ووضع دوزاناً يختلف عن الدوزان الشرقي، وليس كما يشاع بأن منير بشير من وضع الوتر السادس، بل منير بشير من استخدمه أولاً وطور في سحر النقر عليه.
في BBC كان يعزف موسيقى غربية على العود، حتى قدم المدير وقال "نريد المقام العراقي وحضارتك"، تعمق في الفن الصوفي بعدها وفن المقام، في حين كانت العراق تغرق عام 1959 بالصراع بين الشيوعيين والقوميين، كان منير بشير يستكشف موسيقى أوربا الشرقية.
كان يدرس في اكاديمية "فرانس ليست" في قسم التأليف الموسيقي وهو ما يعد أصعب قسم في الدراسة الموسيقية، كان يتتلمذ ويطور أساليبه على يد "زولتان كودالي" المجري الذي يعد أهم مدرس في هذا المجال، ومن هنا كان كل ما يقدمه منير بشير جديداً بالنسبة لأوربا التي عرفت عازفين عرب، لكنه اليوم احتضنت تراثهم ومقاماتهم لأول مرة على يد المنير الذي لم يكن كسابقيه في أوربا، مؤدياً وحسب.
بعد غياب 14 عام عاد للعراق، كان بكاء العائلة وبكاؤه في عام 1973 حين كانت العودة للعمل بعد عرض من الحكومة العراقية، فأسس مهرجان بابل للموسيقى، حيث كانت فكرته تقديم العراق للعالم والعالم للعراق، فكانت موسيقى شعبية وباليه وأوبرا.
كان الأول عالمياً في مجال العود، قدمه مع البيانو والغيتار والموسيقة الهندية، مع كبار العازفين العالميين، وكان يلقب بالقائد، حين تخاطبه الحكومات التي تود تكريمه، ايطاليا واسبانيا واليابان التي مفتاح يوكوهاما، نال 17 وساماً شرفياً من دول أجنبية، وثلاثة فقط من دول عربية!!
كان موسوعياً مثقفاً، يقرأ في كل شيء، الطب والعلوم والفنون، وكان يقول بأن تاريخنا كان ولا زال لنا، وكله مرتبط بالموسيقى.
ويذكر المعلم المقامي حسين الأعظمي بأنه في أحد الحفلات وفي قاعة الخلد كان الجمهور غير موجود، سوى حارس القاعة وزوجته وأولاده، فقرر العازفون الخروج، إلا أن منير بشير صاح " لوين"، هذا الجمهور حاضر، واحتراماً لهم ستكون هناك حفلة وكانت.
لم يرحل منير بشير في يوم عيد ميلاده مصادفة، كانت ولادة من جديد، السكتات القلبية لا تقتل أصحاب النور العظيم، لكن لحكمة ما سبقته لكي لا يرى ما حل بالعراق بعد وفاته، كان 28\9\1997 عام الرحيل ويوم الولادة والوداع، وظل ينير الطريق، منير بشير صاحب العود الذي يجوب العالم بلا ملل، بلا تعب من الجمال.