بين الموسيقا و"الحرايق"، ماذا مثل فعل الكتابة بالنسبة لـ"بو ناصر"، وهل كانت التجارب والظروف التي عايشها وقوداً كافياً لإشعال "الحرايق"، كيف خرجت فكرة "الحرايق" إلى الضوء وتفاصيل أخرى فيما يخص الكتاب ومضمونه وأسئلة كثيرة أخرى ترك الكاتب نفسه يسترسل عن زخم تجربته وليجيب عليها بأسلوب حر..
بداية كَوني مؤدي راب وليس منتجاً موسيقياً، هذا ما جعل ارتباطي المباشر والأساسي بالكلمة التي أكتبها للموسيقى التي تكون من نتاج شخص آخر.
آخر أغنية كنتُ قد كتبتها ونشرتها هي "المطحنة"، منذ سنة والتي صنع موسيقاها "الراس" وكان مضمونها الكتابي مختلف عن كلّ ما سبقها.
كانت "المطحنة" موجهة لي بشكل أساسي، وذلك لم يكن أبداً عن طريق صدفة، لقد كنت متعباً من تلك الشعارات الكبيرة ورأيت نفسي فجأة في دوامة صراعات طاحنة يصعب علي النجاة منها.
كان عليَّ أن ألتفت إلى نفسي وتصدعاتها، لحل أموري بيني وبين نفسي أولاً، قبل حلها مع العالم والأنظمة وظلمها.
بعد العمل على هذه الأغنية لم أعد أعرف كيف أتعامل مع الراب بشكل صحيح، صار مجهداً القيام بهذا الأمر ومتعباً لكنني لم أكن أريد ترك الكتابة، وأردت الاستمرار بهذا الفعل، وأن أضع القصص والأفكار التي تدور في رأسي على ورق.
لأجل هذه الأسباب صرت مع الوقت أكتب نصوصاً تحاكي الكلام الذي أقوم بكتابته وأغنيه، ولكن دون الالتزام بشروط القافية والايقاع والوزن الكلامي، لذا لم أشعر أبداً أنّي مغرّب عما كنت أكتب وأفعل.
الكتابة بـ"الحرايق" كانت فعلياً محاولة جديّة لتنظيم ضوضاء الأصوات في رأسي وترتيبها، كي أستطيع سماعها لاحقاً بهدوء كلّ على حدة.
أنا أفعل ذلك في حياتي اليومية، أرتّب الكتب قبل قراءتها وألبومات الموسيقى قبل سماعها. طبّقت حالة وسواسي القهري على تناقضاتي. فكانت "الحرايق".
لم يبدأ المشروع بالأساس ليُصبحَ كتاباً يُباع وينتشر، بل بدأ كمحاولة علاج ذاتية ورويداً رويداً صارت الأمور بالنسبة لي أكثر وضوحاً فقد كانت مرتبطة بأفعال وأمور أعايشها إلى جانب الكتابة ليس فقط فكرياً بل أيضاً الأمور الحياتية التي أعيشها كل لحظة وأنا أكتب كترك العمل وزيارة "الحرايق" المقبرة ونوبات الهلع وما يرافقها من تفاصيل قاسية.
لذا كان ممكن للكتاب أن يذهب ويأخذني معه إلى أماكن أخرى تماماً ولكني عندما استطعت القبض على كل تلك الأصوات التي كانت تدور في رأسي وتمييزها، أفسحت لها المجال كي تخرج دون خوف أو ذُعر وحتماً دون حسابات.
صرت أعرف كيف أميّز بينها ثم خفّت حدة الضجّة والفوضى تدريجياً فصرت أكثر قدرة على رؤية ومعرفة التفاصيل الجميلة تلك التي يستحيل لأحد أن يراها في خضم هذه العبثية دون بذل جهد كبير.
فالكتابة لم تغير حياتي فقط في هذه التجربة، هذا الشيء حدث منذ أول أغنية كتبتها، منذ ثمانية أعوام، لكن الكتابة هي ذلك المفتاح لدواخلنا ذواتنا ولساننا هي طبيبنا مع أنفسنا قبل أن تكون موجهة للعالم الخارجي.
"الحرايق" لم يكن مشروعاً للنشر الواسع كان من المفترض أن يتشارك في دائرة صغيرة، بين ناس محددين أعرفهم وأن يكون توثيقا لهذه الفترة التي كنت مختفياً فيها عن كلّ الناس.
حتى يفهموا أين كنت وماذا كان يحدث من خلال ما أكتبه بالقلم، طالما أني لم أعد قادراً على الغناء ولا حتى قادراً على صياغة ما أقول لأصوات مسموعة، فكانت الكتابة التي يمكن لك أن تقرأها وتسمعني بينما أكون أنا في بيتي صامتاً.
ما أثار انتباهي أنك بدأت كتابك بقصيدة للشاعر العراقي مظفر النواب، شاعر الثورة والحزن، فأي حزن يخفيه كاتب "الحرايق"؟
مظفّر النوّاب، علاقتي بم يقول ويكتب حميمية وخاصة جدّاً عندما أسمع صوته، أو اقرأ له تدمع عيناي تلقائياً، فرحاً وحزناً، كان موجوداً دائماً في خفايا الشُغل عندي كجندي مجهول.
هو الذي يقدم الحزن كصديق عزيز، كرفيق، كجزء منّا، كفيل أنّ ينقذنا أحياناً ويجعلنا بطريقة ما أفضل حالاً.
كنت أتمنى كثيراً لو لم أخض كل هذه التجربة التي قدمتها بالنهاية لا أحد يتمنى أن يكون لا أحد يتمنى أن يكون اسم كتاب سيرته على اسم مقبرة قريته، ولكننا إذا لم نُعطِ الحزن مجاله وحريته سنصبح وحوشاً بحق أنفسنا أولاً، وسنفقد أيضاً مع الوقت تقديرنا الحقيقي للسعادة، السعادة الحقيقية التي يمكن أن تتواجد في أصغر التفاصيل حولنا كل الوقت ولكن دون إدراكها ومعرفة قيمتها..
بالنسبة لكثافة المفاهيم الانسانية، والتي لا يمكن إغفالها عندما نتطرق إلى "الحرايق"، هل كانت "الحرايق" رداً كافيا لك على هذه الأسئلة الكثيفة التي تفرضها علينا الحياة بشكل يومي ؟
العديد من المفاهيم الانسانية التي كتبت عنها في "الحرايق"، كنتُ قد تحدثت عنها سابقاً بنص أو أغنية أو مقال عندما كنت أكتب بجريدة منذ سنوات.
فنحن لا نتخلّى عن اهتمامنا بالحريّة والعدالة والموت والمقاومة مثلاً، لكنّ نظرتنا وفهمنا لهذه المفاهيم هي التي تختلف وتتغيّر تنضج يوماً بعد يوم.
لم أطرح الكليشيهات المستهلكة ولا كنت بالمقابل أدّعي قدرتي على الإجابة على أعمق أسئلة العالم وأكثرها تعقيداً، كنت أقول لنفسي أولاً قبل أن أتوجه للناس إنّي لن أكون سوى كاذب كبير إن ادّعيت امتلاكي الأجوبة النهائية عن الموت أو الحرية أو الخوف.
كيف أطالب بحريّة الملايين المطلقة وأعظ وأحاضر بحقوقهم الإنسانية وأنا غارق في عبوديّتي الخاصّة؟ فلنمارس حريّتنا في تفاصيلنا أولاً، فيم نحب ونكره وكيف نتعامل مع مشاعرنا، في اتخاذنا للمواقف الصغيرة بحريّة قبل أن نعلن موقفنا من غزو السوفيات لتشيكيا في القرن الماضي.
في أن نكون على معرفة بم يوجد بين جلدنا وعظامنا قبل أن ندّعي أننا ختمنا المعرفة أو تخطّيناها.
أتفق معك لكن رغم الحزن المركز أحياناً والقسوة أحياناً أخرى تحدثت بين الحين والآخر عن أشياءك التي تحب وارتباطك بها، والتي يمكن القول أنها ذاتها أنقذتك في النهاية، بين العاطفة والخوف من الفقد كيف تعاملت مع جملة هذه العلاقات الانسانية والشيئية أيضا؟
كان محور الكتاب هو "لعبة الأحجام الطبيعية"، وما يدور حولها، فالأشياء البسيطة بسيطة، الصعبة صعبة، الحلوة حلوة، البشعة بشعة، الكذب كذب، الأسباب التي تؤدي للانتحار هي كذا الحزن ،الخوف، الخ..
كل شيء نعترف بحجمه مهما كان صغيراً أو كبيراً ،أن أشاهد في الصباح كيف أن البذر الذي زرعته نبّت، هذه سعادة حقيقية وليست جائزة ترضية عن فقداني لثروة ضخمة.
من ناحية أخرى بو ناصر، كان هناك تنوع واضح لأناك الكاتبة في "الحرايق" وتجلى ذلك في جملة من الحوارات الذاتية التي خضتها مع نفسك وذواتك الأخرى ،هل كان هذا التنوع للأنا مقصوداً؟ وما الغرض منه؟
بخصوص تنوع الأنا وتشابكها وتقاطعها وتخابطها، كان في مكان ما دعوة لكل شخص يقرأ "الحرايق" ألا يخجل من تناقضاته وضياعه وفصامه، هي حالة طبيعية لنا كبشر نحيا ونعيش هنا، علينا ألا نخجل من طبيعة تركيبتنا النفسية، حتى ولو أمرتنا شركات ومافيات العقاقير بكبتها بالأقراص.
على الصعيد الشخصي كنت أخاف من إظهار هذه التناقضات للعلن، كانت تعميني الرغبة بالظهور دوماً بصورة الرجل الواثق الذي يعرف ماذا يريد. لكنّ كادت هذه الرغبة أن تعميني عماءً تاماً، يمكن لغوغل مثلاً وهو موقع افتراضي أن يقدم لك مئة ألف إجابة على أي سؤال تطرحينه بثانية واحدة لا أكثر.
إن مجرّد فكرة العمل على كتاب هي محاولة للخروج من التنميط وعلب الناس والمحيط والأهل والأصدقاء ودخول إلى عالم آخر مختلف تماماً.
وبالرغم من هذه المخاطرة واحتمال الوقوع في الفشل فقد كان أنجح مشروع في حياتي كلها حتى الان.
ما قدمه لي الكتاب من دعم وتقدير وثقة ورغبة بالتطوّر والبقاء والحبّ كان أكثر بكثير من كل شيء آخر صنعته في حياتي.
على المرء ألا يملّ من التجربة أبداً، خاصة تلك الأشياء التي يحبها ويؤمن بها ولو كانت بعين العالم كلّه خاسرة سلفاً. لذلك ليس لدي مشكلة ان أصارح ببيئتي ومحيطي أني ضدّ أحزابها وضد سياستها وأني شخص لا ديني غير ملتزم بأي قيمة أو عادة تفرض عليّ كمعيار أخلاقي إذا لم أكن أنا نفسي مقتنعا بها ..
نحن ندرك أنه لا حقائق مطلقة في الحياة، الأسئلة تطرح على نحو دائم لكن تبقى الأجوبة ناقصة وغير مرضية عموما وأما الموت يكاد يطرح نفسه كحقيقة مطلقة خالصة، فهو يمثل نهايات الأشياء والموجودات حسب إدراكنا وفهمنا للوجود المؤقت من حولنا، تحدثت في الفصل الأخير عن الموت بشكل مكثف، عن ارتباطك به وعلاقتك معه، كيف تعاملت شخصيا مع الموت وكيف تصالحت معه؟
كان الموت هو الضيف الثقيل الأكثر حضوراً في سنة ال2016. إن كان على الصعيد العائلي والمناطقي، أم في دائرة الأصدقاء المقربين، أو بدائرة أوسع سواء بالمعارك والحروب التي تحاوطنا من كلّ حدب وصوب.
لن أقول أبداً أنه لا يعنيني أن أموت او أني لا افكر به أو أخافه، لكنّه بالنهاية محطة إجبارية تحيط بها هذه الهالة الكبيرة التي ستنجلي دون جهد وربما سأكتشف أن أفضل ما يمكن أن يحصل للإنسان هو موته، أو العكس. هل يمكن لك أو لأي كائن حيّ أن يفيد أحد بهذا الخصوص؟ قطعاً لا. لذا سأتوقّف عن ربط الموت بالحداد والحزن فقط، سأتوقّف عن النظر إليه كقرار إراديّ ينتظر ساعة تنفيذه الناجحة أو كلعنة حلّت على جنسنا البشري. هناك قصص كثيرة أقسى ومخيفة أكثر من الموت بحد ذاته، ولو كنتَ حيّاً كأن تسمع صوت برميل من النار يسقط من السماء عليك بينما تحتضن شخصاً تحبه وتعيش معه ثوانيك الأخيرة.
حدثنا في النهاية عن الانعكاس الذي تركته هذه التجربة على ذاتك وفي روحك كيف أثرت عليك وماذا أضافت لك وهل من الممكن أن توجد "حرايق" قادمة في المستقبل؟
التجربة أنقذتني حرفياً مادياً ومعنوياً من ألف سجن وهمي كنت قد قيدت نفسي لوقت طويل خلف قضبانه، وأيضا من ألف رعب وألف دوامة اعتقدت أنها من أكبر وأقسى الأشياء التي يمكن أن يتعرض لها المرء في الحياة.
حدث مثل إطلاق "الحرايق" من خلال حفل صغير كان أمرا مفرحاً وعنى لي الكثير فقد جمعت محبة "الحرايق" أشخاصاً من أضداد وأطراف متناقضة ومتقاتلة أحياناً قد كان تعبيراً عن رأي واحد صريح وواضح لتجربة انسانية غير مسيسة أو محسوبة على طرف إلا الانسان ذاته.
بالطبع سيكون هناك طبعة ثانية قريبة من "الحرايق" قريبة حاملةً معها تصحيحات لبعض التفاصيل الصغيرة التي قد فاتتنا في طبعتها الأولى، كما أنّني أتمنّى وسأحاول ألّا تكون "الحرايق" هي أول وآخر عمل مكتوب على ورق لي، لكن الجزء الثاني من المشروع سيكون بمكان آخر تماماً، بالشكل والمضمون والغاية.