لم يكن محمد جواد أموري مدركاً لما يمكن صناعته بجانب اللحن، صوته الذي كان مؤجِلاً كل الجمال في سبيل اللحن، ظهر جلياً كاسمه، مغنياً وملحناً وصانع نجوم في الزمن العراقي الأجمل.
ولم يكن إرثه مقتصراً على شخص يصنع لحناً ثم يمضي، كان هوية جيل بأكمله، ينبش في الأماكن العراقية عن الأصوات التي تستحق الوصول، حيث رسم ملامح الأغنية في السبعينيات والتي بقيت راسخة، ولحقه الجميع كأنه امتداد صناعة الأخوين الكويتي.
ولد عام 1935 في قضاء طويرج في محافظة كربلاء، في عائلة متوسطة يعمل والده في النجارة، ولم يكن بعيداًعن الموسيقى في الطفولة، فيذكر في أحد المرات:
" كان أبي نجاراً، "وعندما ذهبت معه مرة إلى بغداد ورأيت الآلات الموسيقية، أخذت لوحة ومسامير وأسلاك وصنعت بنفسي آلة تشبه القانون، ثم اشتريت ناياً من القصب، وكنت أصعد على الكرسي لأعزف في المدرسة".
كان مكتشف النجوم وصانعها يكبر في "طويرج" متشرباً الحزن، حيث الشجن في الأشعار والمجالس الدينية، حيث المقامات التي تمسك كل حزن الأرض وتضعه في القلب، وكانت سمة أعماله مع كل الذين حملوا نوتات الملحن المغني في طيات صوتهم.
درب اللحن- آلات الحزن :
في طفولته كان يعزف الناي والقانون المصنوع باليد، إلا أن عمله مع الكمان كان هوية حيث عمل في الفرقة السمفونية العراقية، كان ثمرة الخطوات الحثيثة نحو الوصول، فأخذ على عاتقه تعلم الموسيقى بعد التشجيع من ابن عمه الموسيقي "لطيف المعملجي" في معهد دار المعلمين في الأعظمية، حيث احتضنه الأستاذ "أكرم رؤوف" وأطلعه على أسرار الموسيقى، فتشكلت خطواته الأولى هناك.
خلال 3 شهور تعلم عزف العود والنوتة التركية، وكان يجلس ناسياً الطعام، يغلق باب غرفة الموسيقى ويتدرب، ويتعلم، يعزف جميع السمفونيات، حتى أصبح متمرساً في عزف الكمان.
عندما تخرج عام 1954، وبدأ مشوار التلحين، يُشهد للفرح أنه في كل ما لحن لم يكن سوى في أغنيتين، الأولى "مالي شغل بالسوق" لحسين نعمة، "نوبة شمالي الهوى نوبة الهوى جنوبي" لصباح السهل.
ثم تأسيس الفرقة السيمفونية العراقية عام 1959 وكونه عازفاً على آلة الكمان ل 16 عاماً، استخلص منها عمراً من العطاء بفضل اطلاعه على الألحان الغربية، وتمكنه من استخدام أكثر من آلة برع في العزف عليها.
إلا أن "محمد جواد أموري" ما إن أمسك العود، تعلق بنقرات أوتاره أسماء الجيل السبعيني جميعاً، فكان "حسين نعمة، رياض أحمد، ياس خضر، فاضل عواد، فؤاد سالم، أمل خضير وسعدي الحلي وسعدون جابر " وكل الذين عبروا بالعراق لقلب المستمعين.
أما أنوار عبدالوهاب وكان رفيق دربها، قدم لها معظم أغانيها "عد وأنا عد" "دادا مو راحت علينا" "دادا شلون حالتكم بعدنا" "مر الشتا" وغيرها، لما رآه بصوتها الملتزم معبئاً بدفء وعذوبة دخلا للعراق من الباب الواسع.
صدى الصوت فيما لحن أصبح سمة وهوية لما يأتي من بلاد الرافدين، "الريل وحمد" قصيدة النواب التي لحنها للكبير ياس خضر، باتت نشيداً شعبياً للجميع، يظنها البعض نشيداً عراقياً إلا أنها امتدت إلى سوريا وطرقت كل البيوت ويمكن القول إلى البلاد العربية، كما امتدت ألحانه الى الكويت مع الفنان "عوض الدوخي" الذي قال :
"الملحن محمد جواد اموري من أصدق الملحنين العراقيين إن لم نقل العرب لأنه يحمل في صوته الشجن العراقي الأصيل المحبب للنفس" .
وكان بليغ حمدي من أشد المعجبين بالرجل الكربلائي، حيث قال: "محمد جواد أموري.. طاقة كبيرة في الفن والإبداع ولكن أين الأصوات وشركات الإنتاج التي تساعد على انطلاق هذه الطاقة وهذا الإبداع."
لم يكن ضائعاً الصوت، لم يكن أي لحن ليكون أجمل بعيداً عن صوته، حين شرع في تأدية أغانٍ قام بتلحينها، أصبح الرقم الأصعب في الأغنية العراقية، حين كانت العراق تعبر بألحانه نحو الأبعد، صارت تعبر بصوته أبعد نحو القلوب التي تتمسك بصوت العراق في ليلها ونهارها.
يقول فؤاد سالم : "أنا أراه كأب مع أنه لا يكبرنا في العمر، إلا أنه عاملنا كالأب، ومحمد جواد أموري معين لا ينضب".
حين يرحل اللحن الحزين:
العمر الذي بدأ بأكل جنبات الجميل وملامح صحته، انتكاسات الجلطات المتتابعة، وحادث السير الذي أبعده بسبب الكسور البالغة في كلتي اليدين عن العود، ثلاث سنوات مهدت للرحيل الأخير، لآخر ضوء في مسيرة اللحن العراقية، حين كانت الأبواب تغلق في وجه "محمد جواد أموري" الذي صنع النجوم ولم يسعفه أي بارقٍ منها.
مثواه الأخير في مقبرة الشيخ معروف وسط بغداد، كانت رحلة خجولة للجسد الذي حمل صوت العراق وعوده جيلاً وأجيالاً ولم يحمله إليه سوى قلة، عن عمر ناهز التاسعة والسبعين رحل صاحب "دك قهوة ... وريحة هيل"، ولا "حمد".