"محمد القبانجي"، وكثير مما يمكن قوله عن الكبار، يستحقه هذا الرجل الذي كان ولا زال قارئ المقام الأول، وعصب اللحن الذي سارت عليه الأغنية العراقية حتى أصبح تراثاً، صوته وحده ولا ثانٍ له في بداية ملامح الأغنية العراقية في عصر الذهب.
كل الذين أتوا من الرافدين، تلمسوا بصوت وتعاليم القبانجي دربهم الأول، الأستاذ "محمد عبد الرزاق" المولود في عام 1901في محلة سوق الغزل قرب "الرصافة"، في بيت محافظ، أمسك المقام وصوت ترديده قلب الفتى الذي رافق والده الذي كان أول من أثر في مسيرته، حيث كان قارئ فن المقام متتلمذاً على يد "الملا عثمان الموصلي"، ووازن محاصيل في السوق ومن هنا اكتسب اسم "القبانجي"، فكان ميزان اللحن والكلام، والمقام.
"أنا تأثرت بوالدي المرحوم، كان من الصوفيين المشهورين، وكنت أصحبه حين يذهب للموالد والأذكار.
كنت في الليل أجلس وأسمعه ينشد قصائد صوفية وأذكار" (القبانجي – لقاء تلفزيوني).
تلمس خطاه الأولى في الأماكن التي ارتادها أهل المقام التقليدي، في المقاهي التي كانت متوزعة في أسواق بغداد، تصدح بأذكار وقصائد، وفي القهوة المجاورة لدكان "القبانجي"، كان يجلس هناك المقرئ "قدور العيشة" الشخص الذي يعترف به "محمد القبانجي" كمعلم والشخص الذي أعطاه الثقة ليذهب بما يريد أبعد من آراء البقية أمثال المرحوم "محمود الخياط" و"السيد ولي"، التي عارضت ما قدمه الفتى آنذاك، "حين طلبوا مني تقديم المقام الحسيني، وكان الجميع يظنون أن هذا المقام كبير، بينما في المقامات لا يوجد كبير وصغير، بيها أكو تأدية وطرب، فإذا حصل تأدية ولم يحصل طرب، فلن يكون هناك غناء، وبطريقة تختلف عن طريقتهم في الابتداء والصرف والانتهاء، قدمتُ المقام".
حين لم يكن ثمة مدرسة بالمعنى المعروف للمدارس لتخريج المغنين وتعليمهم وتثقيفهم، فكان عليهم ملاحقة كبار المؤدين والحفظة وقائلي المقام، في الحفلات والموالد والمجامع.
ظهر "القبانجي" في أواسط العشرينات، صادحاً بالمقام، وكان ذا أداء قوي وصوت رخيم وحفظٍ قلّ نظيره للأشعار وإحاطة كاملة بالمقام وفروعه.
حين صدح صوته في بغداد، في الزوايا كلها، قدمت شركات التسجيل الكبيرة إلى العراق لتسجيل النغمات والمقامات العراقية مثل "BAIDAPHON" و "His Master's Voice"، فكان "محمد القبانجي" صاحب النصيب الأكبر، وتم التعاقد مع "BAIDAPHON" للسفر لبرلين وتسجيل أكبر عدد ممكن من المقامات والأغاني 1929.
أتبعها بتسجيلات أخرى في القاهرة عشية مشاركته في المؤتمر الاول للموسيقى العربية الذي عقد في القاهرة عام 1932.
يُعتبر القبانجي أول مقاوم بالمقام للاحتلال البريطاني للعراق إذ يقول بما معناه "أحسست وعشت معاناة الشعب، ولم يكن بيدي حيلة سوى أن أستعمل لساني والكلمات والألحان، والحقيقة كان اليأس مخيماً، وغنيت في بداية الإذاعة العراقية وكنت أول من غنى في افتتاحها، وكنت أسهر في الموالد جميعها مجاناً في سبيل الشعب وخدمة الشعب والوطن"
((وأنشد في واقعة جسر الشهداء، حيث سارت جموع من الطلاب على هذا الجسر عام 1948 بمظاهرة صاخبة ينادون بإسقاط معاهد (بيفن – صالح جبر)، وقد فتح أعوان الاستعمار النار على هؤلاء المتظاهرين العزل فسقط عدد كبير من الشهداء والشهيدات)) (من كتاب الطريقة القبانجية في المقام العراقي وأتباعها – حسين إسماعيل الأعظمي)
فصدح القبانجي بـ "زهيري" مؤثر، حفظه الشعب وردده وقتها
"خذ من دروس الزمن، درس الزمن يجري
واحفظ حقوق الوطن حق الوطن يجري
والي انكتب بالسما في أرضنا يجري
سم المنايا ابفم رجالنا شاهد
يا عدل سجل ابتاريخ الظلم شاهد
يا دكة الجسر كوني للوطن شاهد
دم العروبة ابشرف وية النهر يجري ".
لم يكن دور "محمد القبانجي" عادياً في ما قدمه، حيث تأثر الجميع من بعده بالمدرسة القبانجية، وأولهم الأربعة الكبار "يوسف عمر، حسن خيوكة، ناظم الغزالي، عبد الرحمن العزاوي"، فأثر القبانجي أتى من كونه قد حافظ على أصول نغمة بغداد وقواعد المقام وتتبع اللهجات والطرائق السابقة، ومن كونه سلك بمدرسته مذهب التجديد والتطويل، فأضاف نغمات من مقامات لمقامات أخرى، وأصبح بعدها كل مقام قام بإضافة له مقاماً مستقلاً بذاته، وهذا ما لم يسبقه له أحد.
تقلد أوسمة عربية ومحلية تقديراً لعطائه بدءاً من جائزة المؤتمر المعقد في القاهرة عام 1932 (المؤتمر الأول للموسيقى الشرقية)، وأخرها جائزة الأونيسكو عام 1980.
في أول نيسان من عام 1989 توفي الفنان العراقي الكبير محمد القبانجي، تاركاً خطواته ومدرسته للأجيال العراقية التي ما زالت إلى اليوم تأخذ من القبانجي وتسير.