بالعودة إلى فعل الكتابة يبقى السؤال عالقاً دائماً في فراغ كبير أجوف، لماذا نكتب؟ ولماذا قام كلّ الكتاب بكتابة كلّ تلك المؤلفات التي لازالت حتى هذه اللحظة موجودة رغم فناء أصحابها وكيف يمكننا إطلاق أي حكمٍ كان على أي تجربةٍ أدبية رديئة كانت أم جيدة دون الغوص في أعماق الكاتب نفسه وحالته النفسية والروحية، أذهب أحياناً بعيداً لأقول أن الأدب بدأ يقوض نفسه بنفسه نوعاً ما، كما هو الحال بالنسبة الفلسفة، لن تكون هناك مواضيع أدبية جديدة يمكن للكاتب أن يبني عليها قصته ونصوصه، الحزن الفرح الحب الخوف الألم الفقد الخسارات الموت الحياة الله النفس الحروب التناقضات البشرية ..الخ، وغيرها من الأفكار والأحاسيس التي يشترك بها المثقف مع الغير مثقف والفلاح مع القارئ النهم على سبيل المثال وبإسقاط صغير للصفات والتصنيفات ستكون هي ذات الأفكار والأحاسيس والقلق الوجودي الذي يشاركه الأديب مع أي كائن بشري آخر يشاركه حيز الوجود هذا، مع مفارقة يتيمة تكمن في كون الأول يستطيع التعبير بلغة ذاتية معينة عن أحاسيسه وأفكاره على غرار الثاني الذي يمكن أن يطلق صرخة أو شتيمة في لحظة ما تعبيراً عما يخالجه من أحاسيس.
عن "الحرايق" وما بعدها:
يفتتح الكاتب كتابه بمقدمة أقتبس منها:
"ربما نحن نحب بعضنا بهذا القدر، ربما لا، ربما نحن نكره بعضنا البعض، وينتظر كلّ منا الفرصة المناسبة للانقضاض على الآخر وسحقه، ربما لا، ربما نحن واحد أو عشرة أو ألف، ربما نحن لا شيء ولا أحد ولكننا نقوم بكلّ ما نقوم به لأننا نخاف فقط".
عندما يكون الفاصل بينك وبين الحياة هو الخوف ثم يتجاوز الإحساس بالخوف عتبته الكبرى ليصبح الخوف الفاصل بين الحياة والحياة نفسها، الخوف المستمر، الخوف القاسي، الخوف الغير مبرر، الغير مفهوم، الخوف الواعي والخوف اللاواعي، كلّ هذا سيؤدي حتماً لنتيجة واحدة، سيؤدي لحرائق كبرى، حرائق تبقى أثرها طويلاً.
وظف الكاتب الخوف في بداية كتابه كنقطة انطلاق لثورة شاملة على النفس وتناقضاتها ومكامن ضعفها وقوتها وهذا كان جلياً في محاولته للتعري الكاملة وتنقله بين الأنا المتعددة التي استخدمها، وميز فيما بينها لاحقاً لتحمل تناقضاته على صفحة بيضاء أشبه بمقطوعة موسيقية تنوعت إيقاعها، واختلفت مع كلّ صعود وهبوط للنفس الكاتبة.
هذا الإدراك الواعي لتناقضات الذات والدراية بالصندوق الأسود الذي تحمله أي نفس بشرية، حرض الكاتب في البداية ليغوص بعيداً في أعماق روحه وحده وليبدأ بنبش قبور إدراكه ووعيه والذاكرة، متعباً ومتجرداً في لحظة معينة وهو يقوم بفعل الكتابة من العالم الخارجي المحيط به، متجردا من كونه جزء بسيطاً يكاد لا يرى ولا يلمس من كلّية شاملة تحتضنه وتزيد عليه الخناق في كلّ لحظة لذا تراه كان يكتب كأنّ عين بعين ثقبه الأسود وعينه الأخرى بعين الزمن وحيدين ولا شيء آخر كان يستطيع أن يقوم بفعله في تلك اللحظة سوى المواجهة والدفاع عما تبقى من نفسه المفككة، لم تكن كتابة ""الحرايق"" هنا عملاً أدبياً خالصاً ولا هدفاً أو سعياً لتكون كذلك في نهاية الأمر كانت وسيلة دفاعية مجردة، سلاح أعزل دفعت صاحبها بلحظة للتخلي عن الحمل الذي كان يثقل كيانه وروحه من خلال الكتابة.
"اكتب .. اكتب باسم حزنك الذي سبق"..
في طيات ""الحرايق" "محاكاة لقسوة الحياة والواقع من جهة والخيارات الضئيلة المتاحة للفرد والتي يتوجب عليه أن يقوم بها ثم يتحمل نتائجها كاملاً وحده من جهة ثانية، هل يذهب الموضوع ليكون أشبه بخوارزمية لاجتراح الألم وتكديسه في رحلة السعي للبحث عن الذات والمفاهيم الإنسانية والحياتية كالحب والحرية والكرامة ...الخ؟.
هذا ما يحاول الكاتب أن يرصده في جملة الحوارات التي يخاطب بها نفسه، إضافة إلى تعريته لكافة تلك الحروب التي يجبر المرء على خوضها لحظياً في واقع لا يتوانى في كلّ لحظة أن يجعل من الإنسان آلة تجردهُ من أدنى حقوقه في الحياة ابتداءً من الخلية الصغيرة في حياة الإنسان(العائلة) مروراً بالعمل الذي يجب أن يكون انعكاساً لرغبة الفرد في أن يكون منتجاً وفعالاً لا وظيفة معينة لسد رمق العيش مع كلّ تلك التحفظات على الانتهازية واستغلال جهد الفرد انتهاء بواقع السلطة والسياسات القمعية والمستبدة .
"لاتعرفون قسوة أن تسلموا صباحاتكم المفترضة بظرف مختوم لمحاسب الشركة حيث تعملون ليسعرها ويحدد قيمتها، لاتعرفون ثقل التحية المفروضة على مدير تكرهونه ويكرهكم، لا يرى فيكم إلا كلّفة إنتاج ضرورية لتحقيق مكسب يفوق راتبكم"
كيف يكون المفر من كلّ هذا إذا؟ وما الحل؟ هل يتوجب على الإنسان أن يشعر بعجزه التام أمام كلّ هذا الضجيج و اللا منطق، هل يرضخ و يترك نفسه كنعجة ضمن القطيع يحني رأسه ويخضع لأحكام مجتمعه القطعية ويقبل بالواقع البائس الذي هو بطبيعة الحال نتيجة لسنوات وسنوات من الظلم المكرس والمنظم من قبل مافيات السياسة وغيرهم من رؤوس الأموال الكبيرة التي لا تنفك في ممارسة دورها الطفيلي في امتصاص خيرات الشعوب وتعبها، هل يترك الإنسان الجاهل لجهله والمستغل لجلاده والأرض لسارقها هل يترك الله لشيوخ الدين المدعين وتجار الأرواح البشرية تحت غطاء الدين وهل يجد المرء في قتل نفسه في النهاية الخلاص الوحيد أمام كلّ هذا العجز المركز، أي حرية في خضم كلّ هذا يمكن أن يظفر بها الإنسان ويحارب لأجلها حين يجابه الطفل والشيخ بالسلاح والعصا والمعتقلات والدمار، وأي استسلام هو هذا حين تقبل الحياة كما هي دون أن تحاول وتحارب لأجل حقوقك، حقوقك المشروعة والبسيطة التي لم تطلب شيئا أكثر منها.
جملة من الأسئلة الكثيفة يطرحها الكاتب على نفسه، حيث يترك نفسه تارة ليتعامل بمنطقية وقسوة على نفسه أولاً وتارة أخرى يستسلم لعاطفته وضعفه والتعب الطويل الذي رافقه خلال رحلة "الحرايق" ضمن سلسلة واعية ومجردة من التناقضات الذاتية التي يشاركنا بها الكاتب بلغة سلسة أقرب تكون عتابا ودياً ودافئا بين أصدقاء قدامى.
"كنت أتمنى مثلك أنني ولدت في بلاد محترمة ما غير هذي البلاد، حيث لا يعرف السكان أن الكهرباء والماء تقطعا، حيث تخصص الدولة معاشات للمعاقين والعجزة والعاطلين عن العمل إراديا أم لا، حيث ينسى الناس وجود العسكر والأسلحة، حيث نصف الشعب لا يعرف اسم رئيس حكومته ولا وزرائها، حيث الانتماء الديني تفصيل لا يعني إلا صاحبه."
في الفصل الأخير من الكتاب يمضي الكاتب إلى "الحرايق" وإلى رحلته الأخيرة لفهم الموت حيث لفهم بدايات الأشياء ونهايتها قد يستغرق البعض عمراً كاملاً وربما قد يخرج منها أيضا دون فهم ووعي للحياة وما بعدها، كيف يفهم المرء الموت وكيف يتقبل فكرة الفناء ويتصالح مع هذه الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة دون خوف ورعب منها، من ذلك العدم التام والمطلق، هذا السؤال الذي تحدثت عنه جميع الأديان وطرحته كافة الفلسفات في محاولة لتحليله وفهمه دون أن يستطيع أي أحد في النهاية أن يقبض على جواب واحد مقنع.
مثقلا بالتعب والحزن يقف في النهاية برهة ليحدثنا عن اللحظات التي كان يمرر بها السكين على أطراف جسده، ينشر منشوراً على الفيس بوك، يدخن سيجارته الأخيرة ويستمع إلى الموسيقا التي يحب مقرراً إنهاء حياته حتى ينقذه بعدها صديقه من موته المشتهى دون أن يعلم هو نفسه، ليختتم لنا حكايته وحرايقه بالعودة إلى أشياءه البسيطة، التي يحب وإلى الناس الذين يحبهم بصدق متحدياً بذلك الحياة ومتحدياً نفسه من جديد:
"لا لن أقفل الباب، ولن أطيل الوقوف على عتبته، سأدخل حتما، لن أحرم نفسي والذين أحبهم من كلّ هذا، سأخلعه نهائيا وأرميه نحو الشمس"..
في النهاية يأتي فعل الكتابة مجدداً كمحاولة لترميم كافة الثقوب التي تخلفها الحياة في النفس، لضبط إيقاع الروح من جديد وإعادة التوازن في جملة كلّ تلك التحولات التي تطرأ على الإنسان ضمن تجربته الحياتية، هو ذلك السلاح الذي ندافع به عن أنفسنا أمام الواقع الذي يجر بنا لحظياً إلى دوامة العجز، لم يكن الهدف من "الحرايق" أن تطرح الأسئلة ولا بالمقابل أن تجيب عليها، جاءت "الحرايق" كمحاولة لتعرية هذه النفس البشرية التي تعيش كما هائلا من الصراعات والتناقضات سواء كانت بمعزلها أو مع العالم الخارجي على حد سواء ومشاركتها مع المتلقي الذي ربما يجد نفسه في خضم كلّ هذا مأخوذاً بالقرب والتشابه على اختلاف الطبائع والنفوس والتجارب الحياتية التي سيترتب عليها الكثير من الحرايق..حرايقنا.