مقاهي الرصيف في "الحمرا" لها سحرها الممتد من زمن بيروت الذهبي، وقد حافظت هذه الأماكن على "نكهة" أيامها القديمة حتى الرمق الأخير!
مع توغلّ الزمن الجديد في بيروت، بعد السلم، سوف تستسلم هذه المقاهي وتتقاعد، واحدا تلو الآخر، وستنشأ مكانها محال تجارية وأبنية حديثة...
ولكن من بوسعه أن يلغي أسماءها من الذاكرة، ومن يوميات أهل بيروت، حتى هذه اللحظة؟!
كنت أسمع بمقهى "الهورس شو" دون أن أعرفه، بسبب حادثة شهدها في مطلع السبعينات، حين داهم الشرطة "مسرح بيروت" وأوقفوا عرض مسرحية "مجدلون" بالقوة! ويومها قامت نضال الأشقر بالنضال الوحيد الذي ستحكي عنه طوال عمرها، حيث قادت الممثلين الى "الهورس شو" واستكملت العرض في المقهى كنوع من التحدّي...وسرعان ما كانت "الفرقة 16" تقبض عليهم وتقودهم لتمضية ليلتهم في "مخفر حبيش"!
كما كنت أعرف حكايات "الدولتشي فيتا"، وهو من مقاهي "الروشة"، وملتقى الفنانين والشعراء والسياسيين والمتطفلين، وقيل أن "الأسرار" التي يتم تداولها فيه، لا يعرف فيها الكثير من حكّام الشرق الأوسط!
لكن المقهى الذي دخل "التاريخ" اللبناني والعربي، هو "الويمبي"!
هناك، وبعد دخول الجيش الأسرائيلي بيروت صيف 1982، وأثناء جلوس ضابط اسرائيلي ومجموعة من الجنود الى احدى الطاولات وسط استياء وصمت الرواد، تقدّم البطل خالد علوان، وأطلق النار على مغتصبي العاصمة، وسقط شهيدا على رصيف شارع الحمرا!
خالد علوان، القومي السوري، هو من أطلق عمليا حركة المقاومة الشعبية ضد الأحتلال الأسرائيلي لبيروت، وقد جرى اطلاق اسمه على "الشارع"، لكن "الويمبي" أزيل من الوجود قبل سنوات!
كنت دائما أستغرب عدم ولعي بالجلوس في هذه المقاهي، ومعظمها لا يبعد عن بيتي سوى دقائق!
اكتشفت، لاحقا، أنني كنت أهرب منها، فهي امتداد للمكتب، حيث يتواجد الفنانون والكتّاب والصحافيون، وحيث لن يتاح لي أن أتخفّف من دور "رئيس التحرير" وارتداء "عمري"!
كنت في حقيقة الأمر بحاجة الى حياة ثانية بعد العمل، تشبه حياة الطلاب ولا تخلو من جنون الشباب، ولعلّ هذا "التوازن" الذي سعيت اليه، من دون تخطيط، هو الذي جعلني أبتكر التكييفات الناجحة لعلاقتي مع المهنة ومع نفسي في آن واحد!
طبعا، كنت أقصد "المودكا" أو "الويمبي" أو "الكافيه دو باري"، حين أحتاج بشكل طارىء الى "ضيف"، حيث سيجد المرء دائما، رساما مثل رفيق شرف، أو موسيقيا مثل وليد غلمية، او شاعرا مثل بول شاوول، او كاتبا مثل نزيه خاطر، او ممثلا مثل ماجد أفيوني وعلي دياب وسمير شمص وابراهيم مرعشلي، في واحد من هذه المقاهي.
ثمة حكاية لم أشهدها بنفسي، لكنني عشقتها دائما، وقد سمعتها بعدة روايات متطابقة تقريبا، من "شهود" و من آخرين، ولا أعرف فعليا مدى دقتها، لكنها تبقى حكاية فاتنة الى الحدّ الذي يجذبني لكيّ أعيد روايتها هنا...
يروى الراوون وهم يضحكون، قبل وأثناء وبعد ما يروونه، أن رسامة شهيرة كانت تتخذ طاولة يومية محدّدة لها في أحد مقاهي الحمرا، وأن شاعرا معروفا اتخذ هو الآخر طاولة مقابلة لطاولتها!
كانا من الرواد اليوميين، ولكنهما لم يتعارفا، ولم يخوضا معا في أي حديث، على مدى سنوات طويلة من التجاور اليومي.
بدأ الأمر قبل الحرب! ثم مع تصاعد جنون هذه الحرب، عرف الجميع أن الفنانة التشكيلية عازمة على الهجرة نهائيا من لبنان!
وفي اليوم الأخير لها في مقهاها البيروتي، وقد تحلّق حولها الأصدقاء، فوجئوا جميعهم بالشاعر "الجار" يقوم عن طاولته ويتجه اليهم، ويقول للرسامة التي لن يراها ابدا بعد تلك اللحظة: أظن أنه قد آن الأوان لكي نضع حدّا لهذه العلاقة...
ضحك من ضحك يومها، وأولّهم الرسامة التي كادت تقع على الأرض وهي تقهقه!
لاحقا سيرويها الأصدقاء والشهود بضحك أقل، وربما مع بريق دمعة!
يقال أن الرسامة هي سيتا مانوكيان، وأن الشاعر هو صفوان حيدر، وأن المقهى هو "الأكسبرس"...
المطاعم كان لها شأن آخر في يومياتنا، وبلا تردد أقول أنني أكلت في كلّ مطاعم بيروت...
كانت البداية في "دبيبو" المطلّ على صخرة الروشة، ويومها لا أعرف من كان صاحب الدعوة، أنا أو محمود عليشة، لكن ما أعرفه هو أننا حين طلبنا "الحساب" انتظر واحدنا أن يبادر الآخر الى تسديد الفاتورة، لنكتشف أننا لا نحمل المال الكافي!
ليلتها تركني محمود "رهينة" لدى "دبيبو" وذهب لتدبير 18 ليرة هي ثمن ذلك العشاء!
يروي محمود أنه حين رجع بالمال وجدني "تحت الحراسة"، فقد كنّا الزبونين الوحيدين في ذلك الليل البيروتي الحربي، وتفرّغ كلّ العاملين في "دبيبو" لمراقبتي خشية أن أتسلّل هاربا!
الى جانب "دبيبو" هناك مطعم "نصر"، وفي المحيط مطاعم "الشحرور"، و"ماسيس" المتخصّص بالمطبخ الأرمني، و"يلدزلار"، و"بوباي" صاحب أفخر وأشهر "بيتزا" في لبنان، وعشرات المطاعم التي غابت أسماؤها عن الذاكرة.
مطاعم الحمرا ومحيطها، كانت أكثر تنوعا، وأشهرها "الباشا" و"مرّوش" و"سقراط" و"اسطنبولي" و"ازمير"، وهي تخصّصت في المطبخ اللبناني مع تنويعات تميّز بها كلّ منها.
ثم هناك مطاعم "شارع بلس" التي تراوحت من مطاعم الطبق اليومي مثل "فيصل1" و"فيصل2" و"زينة"، وبين تلك الأحدث التي تقدّم أطباقا اوروبية وأميركية مثل "أونكل سام" و"بلو نوت" و"فلايينغ بيتزا"، وسواها مما غاب عن الذاكرة أيضا.
في "بيتزا بينو"، الملاصق لسينما ومسرح "البيكاديلي"، وضعت أنا وزياد غالب خطة طموحة أسّسنا فيها، نظريا، الشراكة الأبدية بيننا!
سرعان ما أقفل "بينو" مع النجاح الأسطوري لسلسلة "مطاعم بربر" المقابلة له، لكن الأتفاق الأول بيني وبين زياد بقي ساريا!
لم نحقق كلّ ما حلمنا به، لكننا اقتربنا كثيرا من تلك الأفكار الجريئة التي تداولنا بها! وأنا أجزم اليوم، أن ما منع انجاز تلك الأحلام ليس كونها كانت أحلام الشباب، ولا فقدان جذوة ايماننا بها، ولا تقصيرنا في ما يتصل بالجرأة مع التقدّم في العمر...
انها "الحرب" ببساطة! كانت احلاما جميلة لبلد آخر غير لبنان الذي عرفناه ولا زال يتلاشى، لكنه فعليا غير موجود على الكرة الأرضية!
عندما قصدنا "اليلدزلار" أولّ مرّة، وكنّا "الرباعي" اياه، زياد وطارق مظلوم وزياد غالب وأنا، وكان ذلك في رمضان...أدركنا قبل أن نغادره أننا وجدنا "مطعمنا"!
"اليلدزلار" اسم له بريق، شأنه شأن تلك الأسماء التي محتها الحرب سريعا، مثل "الباريزيانا" و"الكاف دو روا" و"العنتبلي" و"كازينو فريد الأطرش"!
اسم من "ذاكرة" بيروت، لكنه صمد وقتا أطول قليلا، وبقي محتفظا حتى يومه الأخير بمناخات وأمزجة الستينات والسبعينات.
انه المطعم اللبناني الفاخر بأمتياز، وقد أتيح لي ذات مساء أن أدخل مطابخه، ولم يدهشني أن ألاحظ أن معظم الطهاة قد تجاوزوا سن التقاعد! كان "الماضي" يقاوم في ذاك المكان، لكن المستقبل سيأتي بسرعة، وستبقى "الكبّة بالصينية" التي يقدّمها "اليلدزلار" طبقي المفضّل الذي لا يجيد صنعه أحد!
معن برازي هو من قادني الى العشاء في المطعم الذي سيصبح المطعم "الشخصي" لي وللرفاق!
كنت أعرف معن من أيام "الأفكار"، وقد عملنا معا فترة قصيرة، لكنها كانت كافية لكي نصبح صديقين، ولكي نتشارك بعض المهمات الصحافية "المجنونة" التي تشبهنا!
الفرق بيني وبين معن، البيروتي ابن العائلة السورية العريقة التي تنتمي الى بورجوازية النصف الأول من القرن العشرين، هو أن معن كان "يجنّ" علنا، في حين كنت "أجنّ" بصمت، لكننا في النهاية كنّا على "أرض" واحدة في مقاربتنا للأمور وفي جرأتنا على اقتحام أكثر الأفكار جنونا...
في مطعم " A la Mouf" في الطابق الأرضي من احدى العمارات في محيط فندق "كومودور"، دعاني معن الى مشاركته مغامرته التي أطلق عليها اسم "بيروت بوست"، ومع انتهاء العشاء اتفقنا...
قرر معن يومها أن يصدر مجلة لا تشبه سواها، وقد كلّفني بالقسم العربي فيها، في حين استلم هو القسم الأنكليزي الذي يشكلّ أكثر من ثلثي العدد. وكانت مكاتب "بيروت بوست" في شقة في منطقة "رمل الظريف" بمحاذاة "مستشفى الأطبّاء"، وهي شقة تملكها عائلة معن وقد سكنها مهجّرون لفترة طويلة وتركوها في حالة مزرية.
طبعا، حولّها معن الى "شقة مجنونة"، ويكفي أن أذكر أن "جرن الكبّة" كان المكان المخصّص للمواد المصحّحة والجاهزة للأخراج! وأن "طاولة الأجتماعات" كانت عبارة عن "فرشة" في احدى الزوايا تتسع لكامل أعضاء أسرة المجلة، ومعظمهم من أصدقاء معن.
صدر من "بيروت بوست" عدد يتيم، وكان ثمن النسخة 100 ليرة في زمن كانت فيه اسعار المجلات اللبنانية لا تتجاوز 5 ليرات!
بعد سنوات، سأعيد احياء ذكرى هذه التجربة، عندما اخترت اسم "طرابلس بوست" للمجلة التي سوف نصدرها، أنا وزياد، والتي لا تزال حتى اليوم تعاند في سبيل الأستمرار، مستندة الى نجاحات متوهجة حققتها في المجتمع الطرابلسي والشمالي، قبل أن تأتي كوارث ما بعد 2005 وتعرقل مشروع انتشارها في لبنان والعالم العربي!
لم يكن "A la Mouf" مطعمنا فقط! صار "غرفة السفرة" التابعة لشققنا في "الوست هاوس"، وأعتقد أننا أمضينا فيه معظم سهراتنا.
عمليا، كان هذا المطعم الذي أخذ اسمه من شارع باريسي اشتهر بالمطاعم، عبارة عن "مشرب" و5 طاولات، ويملكه ويديره لبناني يدعى ريمون وزوجته اليونانية يولاند، وتقتصر أطباقه على أصناف منتقاة من المطبخ الأوروبي.
سرعان ما ستلاحظ يولاند أنني لا أطلب لنفسي سوى البطاطا المقلية والسلطات، وستكتشف أنني "نباتي" ولا أتناول اللحوم، وسيكون لي في "A la Mouf" امتياز لم يحظ به أحد سواي... اذ ستقوم يولاند بأبتكار طبق لبناني لي يتضمن "مجدرة" و"مقالي" وبابا غنوج" و"سمبوسك بالجبنة"!
في "A la Mouf" سهرنا وأكلنا وشربنا وضحكنا وخطّطنا للمستقبل، وفيه أقمنا معظم الولائم "الطارئة" لضيوفنا، وفيه كان أيضا عشاء تخرّجي "الضيّق" وضمّ زياد مظلوم ومحمد بدر و ميرنا قبيسي والفت ميناتو ونعمت برادعي، وشاركنا فيه ريمون ويولاند طبعا.
مع بدايات "السلام" أبلغتنا يولاند أنهما سيقفلان المطعم وسيهاجران الى ايطاليا! غريب كيف "طرد" السلام الكثير من البشر الذين "حرسوا" بيروت في أصعب أيامها...
العشاء الأخير كان حزينا! يولاند بقيت متماسكة، أما ريمون فبكى! شرب كثيرا وبكى كثيرا!
وانتابنا على الدوام احساس غامض بأن غياب "A la Mouf" هو بداية النهاية لحياة كاملة لها ناسها وبيوتها ومقاهيها ومطاعمها!
كلّما مررت في المنطقة أحزن لأنني لا أتمكن من اكتشاف العمارة التي كان "A la Mouf" في طابقها الأرضي! ولا أسأل! يناسبني ربما بأن يبقى المكان "ضائعا" في الذاكرة.
____________________
** طلال شتوي - كاتب لبناني
* الصورة لشارع الحمرا (من الانترنيت).