لابد من ذكر ذلك اليوم البعيد، كان لا بد من عرس كبير لشخص رقص في أعراس الناس كلهم، وفي جميع المباريات، لا بد من ساحة بخمس حلقات دبكة، وصوت "التلاوي" يصدح "قربان ربك سراقب من حارة الشرقية".
لم تنم ليلتها القرية، الفرح يبدأ من الظُهر، يبدأ الشباب بترتيب الكراسي بما يتسع للقرية كلها، أو لنقل بما يتسع للكبار الذين لن يرقصوا، الكلّ يدبك كأن نصراً قد تحقق، المواويل تجعلهم تحت تأثير الخدر مستسلمين للريح، الريح والله، الأمور التي سيّرت أمور القرية لأجيال، ولا زالت.
في البيت الآخر، العروس تلبس ثوبها الأبيض، لن يكون هناك كما اليوم لفة شعر ومكياج مدروسٍ بعناية، يومها كان الشعر يمشط ويترك مسترسلاً كذكريات العروس التي تريد أخذها، عن حبيب لم يكن عريسها اليوم، أو بيت أحبت تفاصيله بفقره، بتعب الأب من الحصاد لدى الاقطاع سنوات دون عائد يسد رمق، بتعب الأم من حصار الأخوة الذين سيتزوجون ويزجون بزوجاتهم في الغرف المهترئة، العادات التي نعتبرها في يومنا هذا، جلبتنا جميعاً للحياة، كلنا أولاد دبكة وأولاد قمح وأولاد نساء لم يفهمن في الريح أكثر من العطر المشترك لكل العرائس.
في الخارج ربابة وطبل، وفي الداخل الدربكة وأصوات العداويات، كانت الأعراس "زبيب وقضامة"˙ أيادٍ خشنة تمسك أيادٍ خشنة، والداخل رقيق، رقيق كقلوبهم حين تهل الذكريات كهلال شهورهم المقدسة، كل المحبة التي تكسوهم تكشفها عيونهم التي تغرورق كلما ازداد الوقت ابتعاداً، كلما أصبحت الشملة منسية والحطة، كلما أصبح العقال منسياً والموال، ولطالما ترددت في الأعراس "زوجوها غصيبة يا زيجة الندامة ... الشيخ الي كتب الكتاب يربو ولادو يتامى"، مع ربابة تأن وأصوات تصرخ في وجه الله والريح، لتصنع حياةً، نسترق النظر اليها دائماً، كأن فعل الريح الذاكرة التي تحاصرنا، وفعل الله ابعادنا أكثر، جَعْلنا قساةً بلا أعين تفضح أي شيء.
ولدت أنا، كما ولد الجميع في هذه القرية، على يد الداية التي تعرفنا جميعاً، ولعلها أول امرأة جربنا معها احساس الانزلاق بمتعة في الحياة، ثم الندم، لدينا من الجيران ما يكفي لنصنع خمس صواني "شعيبيات"، أبي كان يبيع الحلويات والسندويش والخضار، كان أول من أحضر الفلافل للقرية، والتلفزيون الذي جعله للعموم، أبي كان رياضياً ومشجعاً حقيقي، يستمع للأغاني العراقية ويلعن أبو اليهود، كان أمياً لم يشأ أن يكون أولاده بنفس المكانة، فبذل كلّ ما يمكن لتعليمهم، حتى روحه في أخر سنواتٍ من حياتي حين رأيت طفلاً قبل موته، يأكل اسم الله مع رغيف يابس كانت قد لُفت بورقةٍ من كتابٍ ما.
________________________________________________
*الصورة من الانترنت