"بيروت/الرملة البيضا.
حضرة رئيس تحرير مجلة "الحسناء" الأستاذ طلال شتوي المحترم.
أشكركم باسم أطفالي الجائعين لنشر ندائي الآتي:
منذ عامين، عرضت أولادي الثمانية القاصرين للبيع، بواسطة جريدة "النهار"، وقد طلبت أسعارا تساوي مصاريف خروجهم من لبنان فقط!
واليوم أكرر النداء، راجيا منكم المساعدة لدى من يهمّه الأمر، مع التأكيد بأنني أرغب بإعطاء أولادي لأيكان مجانا، شرط أن يقوم بتربيتهم واطعامهم وانقاذهم من مستنقع الموت الذي يسمّى لبنان.
الحاج أحمد (.....)/بواسطة مكتب برق طرابلس/ 27 كانون الثاني 1989"!
أدركت وأنا أقرأ سطور البرقية، أنها ليست دعابة، ولا عملية احتيالية. ببساطة هي "حفلة جنون "في سياق الكوميديا السوداء التي يعيشها لبنان، والتي يمكن أن تشهد فصولا تفوق أكثر المخيلات جنونا.
كان العدد الأسبوعي على باب المطبعة. لابد من التصرّف بسرعة...
نشرت صورة عن البرقية داخل العدد، وأعلنت أن "الحسناء" قررت ارسالها الى جامعة الدول العربية، بشخص أمينها العام الشاذلي القليبي، وبأشخاص السادة وزراء الخارجية العرب الذين يعقدون مؤتمراً في هذه اللحظات في تونس.
كان هذا المؤتمر مخصّصا لمسرحية الجنون اللبناني المتواصلة، ويحضره الرؤساء حسين الحسيني وسليم الحص وميشال عون، للتباحث معهم حول "مخارج" للأزمة اللبنانية المتمثلة بفراغ في رئاسة الجمهورية، وبحكومتين تتصارعان على "الشرعية"!
أضفت الى البرقية سطرين من "الحسناء"، مفادهما أننا نرى أن برقية الحاج أحمد هي "الضيف" الرابع في المؤتمر العربي، وأنه ضيف يمثّل شريحة المقهورين فيلبنان، مع "احترامنا" للرؤساء الذين يمثّل أولّهم "الدستور "وثانيهم "القانون" وثالثهم "السيادة"...ولكن ليسمحوا لنا أن يتمثّل "القهر"، ولو برقيا!
بدا واضحا أنني أخذت القضية الى مكان آخر! المكان الذي يناسب "الحسناء" ويناسبني.
في ذلك الزمن، كانت لدينا "ضوابط" كثيرة تجاه مثل هذه الاستباحات الشخصية والاجتماعية .وكنت، ولا أزال، لا أستسيغ "حرية الأعلام" في هتك خصوصيات وأسرار البشر وبيعها للقراء، أياً تكن الذرائع "الإنسانية" التي يسوقها الصحافيون عادة لتمرير هذه الأمور. كما أن "الحسناء" في الأصل مجلة" محافظة"، ولديها تراث عريق من "الخطوط الحمر" التي لا تبيح لنفسها تجاوزها، مهما كانت الإغراءات المعنوية او المادية.
برقية الحاج أحمد وصلت الينا على شكل "فضيحة" نموذجية لهذه الحرب الكافرة في ما بقي من وطن متوحش. وبرقية "الحسناء" وصلت الى مؤتمر وزراء الخارجية العرب على شكل فضيحة سياسية تحرج المجتمعين، ولا سيما الرؤساء اللبنانيين الذاهبين للتباحث في شأن الوطن! الطريف أن الحسيني والحص وعون رفضوا أن يجلسوا على طاولة واحدة خشية أن يعتبر ذلك اعترافا بشرعية بعضهم البعض! كان لبنان مجنونا حقا...
برقية الحاج أحمد أعطيتها لمنى ومنير اللذين انطلقا فورا الى طرابلس...
وأجزم أن برقية "الحسناء" أثارت بعض الضحك في المؤتمر العربي، قبل رميها في سلة المهملات!
منى، الجاهزة دائما للذهاب الى آخر الأرض وراء تحقيق شهي، قصدت لحظة وصولها الى طرابلس مركز البريد في المدينة، وحصلت من أحد الموظفين على عنوان صاحب البرقية: "الشعراني"!
حين استفسرت عن اسم الشارع أو رقم البناية، ضحك الرجل وقال لها: لن تضيعي، عناوين الفقراء متشابهة، وبيوت الآباء الذين يبيعون أولادهم "معروفة"، وهي بلا أسماء ولا أرقام! ثم أن الحاج أحمد صار "نجما"، فهو "زبون" دائم عندنا، يرسل البرقيات اسبوعيا الى كلّ أنحاء العالم!
"الشعراني"، حي منكوب في منطقة القبّة (اسمها الرسمي "قبّة النصر")، حولّته الحروب المتنوعة الى زواريب من الركام والأبنية المتصدّعة والبيوت المتآكلة التي هجرها معظم سكانها. وكان منزل "الرجل الذي يريد بيع أولاده"، أحد تلك البيوت التي تبدو خارجة للتو من معركة "طازجة"!
لعل للأحياء أقدارها الغامضة المرسومة لها، فالشعراني لا يزال الى اليوم، من أحياء النكبة الطرابلسية، وقد استعاد منذ سنوات قليلة دماره القديم وموته اليومي، وصار محورا من محاور الجنون الدائر في طرابلس بشكل متواصل! زينة من خراب...هذا هو الوصف الدقيق لحي الشعراني، عام 1989 واليوم!
وعادت منى بتحقيق مرعب...
الأب جاد في الذهاب الى النهاية في مسألة التبرّع بأولاده، ولديه الحجج والأسباب و"المنطق"... والأم موافقة مع قليل أو كثير من الدموع، والأبنة الكبرى فادية غاضبة الى حدّ الشجار مع والدتها والنظر الى منى ومنير بشيء من التحدّي قائلة لهما: الصحافة "مسخرة"!
ولم يتردد الأبوان فيعرض لائحة بما لديهما من "أعمار" و"قياسات" وأسماء: بلالوفادية وطالب وفادي ونضال وسلام وفايز وأمين! هذا الأخير الذي لم يبلغ عامه الخامس بعد، حظي بتوسل ونحيب من أمه: يا ويلي كيف سيفارقني؟ انه متعلّق بي!! ولكن أباه سارع الى الحسم: اسكتي أنت، الولد بحاجة الى حليب وليس الى دموع!
وروى التحقيق الحكاية اياها! حكاية البطالة والجوع والذل. حكاية المدارس والشوارع والميليشيات والأحزاب والمخدرات. حكاية ربطة الخبز التي يجري تغميسها بالشاي، لتصبح وجبة شهية في يوميات عائلة من 10 افراد! وحكاية الحلم بوطن آخر، وبمستقبل آخر، وبأهل آخرين، لأولاد لا يريد لهم آباؤهم أن يرثوا عقوبة الانتماء الى لبنان! انها "حكايات "لبنانية عتيقة، موجودة طبق الأصل في مئات البيوت، وفي كلّ المناطق، ولا تزال تتكرر حتى هذه اللحظة...
المبكي، وليس المضحك قطعا، أن الحاج أحمد وزوجته كانا "متّهمين" لدى الجيران في الحي بأنهما يتاجران بأولادهما، وبأن المساعدات المالية تنهال عليهما من كلّ حدب وصوب! البعض كان يروي ذلك مع شيء من حسد ظاهر! والأنكى أن بعض الأقارب الذين يعيشون في كندا، أوقفوا مساعداتهم المالية المتواضعة وغير المنتظمة للعائلة، باعتبار أن الشهرة "ورقة يانصيب" رابحة ستدّر على الحاج أحمد وأولاده المال الوفير!
ولاستكمال "الجنون"، انسجم الحاج أحمد مع مضمون البرقية التي أرسلناها الى الشاذلي القليبي، وقام بأرسال برقية مماثلة له، يقترح فيها أن يلقي كلمة لبنان في مؤتمر القمة العربية الذي سيعقد بعد أسابيع، خصوصا وأن البلد لا يوجد فيه رئيس جمهورية!
لكن التفصيل الأخطر الذي عادت به منى، هو أن عائلة هولندية أبدت رغبتها بشراء فادي (16 سنة)، وأرسلت الى الحاج أحمد مبلغ 750 دولارا أميركيا، أودعه في حساب مصرفي ريثما ينجز أوراق تسفير ابنه الى عائلته الجديدة!
ونشرت التحقيق "المدّوي" على 6 صفحات، مع اعتذارين!
اعتذار أول، اعترفت فيه أننا نسيء الى أبناء وبنات هذا الرجل "المجنون" الذين لن يغفروا لنا، ولن ينسى أي منهم صورته الملّونة المنشورة في مجلة عرضه فيها أبواه للبيع!
واعتذار ثان من فادية، الأبنة التي حاولت طرد "الحسناء"، ورفضت الوقوف أمام الكاميرا، قلت لها: لا تحزني! لقد انتصرت عليّ، وأشعر صدقا أن كلّ صحافتي هي "مسخرة"!
وصلتنا مئات الرسائل والاتصالات التي أكدّت لنا أن الهدف تحقق، وأن القضية صارت قضية رأي عام، وبالتالي فإن صفقة بيع فادي لن تتم! لقد أفسدنا عملية البيع الأولى، ولا شك أن الحاج أحمد قد لعن الساعة التي ارسل لنا فيها تلك البرقية! ضحكنا كثيرا، ونزلت دموعنا كثيرا، لكننا في النهاية فرحنا بإنجاز اعتبرناه انجازنا: فادي ليس للبيع...وليبحث الهولنديون عن أولاد يشترونهم خارج لبنان! انه فرح ساذج، لكنه حقيقي.
كانت منى قد لاحظت وجود صورة داخل برواز ذهبي رخيص، معلّقة على الحائط في أشلاء الغرفة التي تستخدمها العائلة كصالون: صورة رئيس الجمهورية المنتهية ولايته أمين الجميّل! بدا البيت مع الصورة أشبه ببيت حكومي تابع للدولة. وبدا أن الواقع قد فاق كلّ مخيلات رسّامي الكاريكاتور في الصحف اليومية!
قصة هذه الصورة لا تخطر على بال أكبر كوميديان في لبنان: عندما ولد أصغر الأبناء، أطلق عليه الحاج أحمد اسم "أمين"، تيمنا باسم رئيس الجمهورية الذي كان لا يزال في السنة الثانية من ولايته التي افتتحها بشعار تحول الى أغنية "أعطونا السلام وخذوا ما يدهش العالم"! وأرسل الحاج أحمد صورة مولوده الجديد الى قصر بعبدا، وجلس ينتظر قرب التلفون "الهدية" الجمهورية! ولكن لن يكون الحاج أحمد أشطر من الشيخ أمين! بعد أسابيع وصلت التهنئة الرئاسية مع صورة للرئيس مهداة للمولود الجديد وممهورة بتوقيع صاحب الفخامة! بروزوها وعلّقوها على الحائط، ولم يعد بوسعهم تبديل اسم الصبي!! وكما تركت القصة في حينه بلا تعليق، أتركها اليوم أيضا بلا تعليق...
بعد نحو شهر، تلقينا اتصالا من مدينة جبيل، أبدت فيه عائلة لبنانية معروفة، استعدادها لاحتضان الأب والأولاد جميعا، وتأمين العمل لهم في مصنع كبير تمتلكه تلك العائلة، شرط الغاء كلّ مشروع بيع الأولاد والالتزام بألحاقهم بالمدارس لمتابعة تحصيلهم العلمي! ما أروعك يا لبنان...
هذه المرّة، توافقنا على ابقاء هذا التطور النوعي للقضية، بعيدا عن الأعلام! انتهى الجنون وبدأ "الوطن"...
زارني الحاج أحمد في "الحسناء"، وأصرّ أن يشكرنا ويشكر العائلة التي أنقذت أولاده، لكنني لم أستسلم: لن تشكر أحدا على صفحات المجلات، هذا هو الشرط الذي ستلتزم به! انتهت المسرحية يا حاج ونجحنا...ولن نقوم بأي عروض اضافية بغية المزيد من التصفيق، والمزيد من الدموع، والمزيد من المتفرّجين!
أخبرتني أمي بعد سنوات، أنها تلقت ذات صباح زيارة من شاب أنيق يعمل في تجارة السيارات، ويدعى فادي! قالت لي أنه أخبرها قصة لم تفهمها كثيرا، بأنني أنقذته يوما من أن يصبح هولنديا...
لم ألتق فادي أبداً، لكنه كرر زياراته الى بيت أهلي في طرابلس على مدى سنوات. قال لهم أنه يعتبره بيته الثاني.
_________________________________
** طلال شتوي - كاتب لبناني
*الصورة لغرافيتي في شوارع بيروت من (http://www.mywanderlust.pl/best-cities-for-street-art)