هل يحتاج البشر إلى أكثر من حرب مجنونة تدور بين البنايات، لكي يصبحوا "عائلة" واحدة تلاقت مصائرأفرادها على السلالم؟!
مع أول معركة شهدتها بيروت بين الحليفين الكاريكاتوريين، "حركة أمل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي"، انفتحت أبواب البيوت في "الوست هاوس 1"، وتقاسم غرباء من مشارب متنوعة، أقدارهم.
كانت شقتي قد حملت لقب "نادي 21"، حيث صارت ملتقى شباب العمارة بشكل يومي. كانت سهراتنا تلك حافلة بكل أنواع اللهو، من ألعاب الورق إلى التحلّق حول رقعة "الريسك" (لعبة احتلال العالم)، وغالباً ما تختتم بحكايات متري عن زيارة يتيمة قام بها إلى "بانكوك" في مطلع شبابه، قبل أن يتناول زياد غيتاره وينخرط الجميعفي ثمالاتهم، فيصدحون بالغناء بأصوات منكرة في ما يشبه "ما يطلبه المستمعون".
لم يعترض الجيران علىهذا اللهو المزعج، باستثناء جو صبّاغ الذي دق على بابي في الثانية فجراً، وأبلغني أن ما نفعله اسمه في القانون "اقلاق راحة".
كنت قد شربت 4 أكواب"فودكا"، ولست في وارد التشاجر مع جو! اكتفيت بالقول له: "مخفر حبيش يبعد عنّا 5 دقائق! ماذا تنتظر؟"!
لم يكن الرجل الستيني الآتي من زمن بيروت ما قبل الحرب، والاسم المعروف في عالم الليل كواحد من أشهرالوسطاء بين النوادي الليلية وبين الفرق الأستعراضية الغربية، من محبي المخافر، خصوصاً "مخفر حبيش" الذي تخصّص تقريبا بعالم المنحرفين والمدمنين.
مشاكل جو مع جارتنافي البناية المقابلة "أم ميشال"، كانت أكثر طرافة من اعتراضه على صخبنا.الأصح القول أنها مشاكل جو مع عصافير "أم ميشال" التي كانت توقظه مع الفجر، فيخرج إلى الشرفة ويشتم كلّ عشاق العصافير في العالم! ولم تكترث"أم ميشال" يوما بهذا الردح. كانت تخرج بدورها إلى الشرفة وتقول بصوت مسموع: هل سمعتم أيها الناس بأنسان يكره زقزقة العصافير؟!
"حرب العلمين"، بين أمل والاشتراكي، كانت حفلة جنون دموية حبستنا في بيوتنا لأيام،لكنها انتهت كالعادة بهدنة "غرام وانتقام" في كلّ أحياء بيروت، بأستثناء شارعنا المحظوظ الذي استكمل الحرب 3 أيام اضافية.
كان مركز الاشتراكيين في بناية "سيدر لاند" بقيادة "الكاوبوي"، وكان مركز أمل فيبناية "بست هوم" معقل آل زعيتر.
"الوست هاوس" (بفرعيه الأولوالثاني) يقع بين البنايتين.
كلّ ما نجحنا فيه، هوالتمني على الطرفين عدم استعمال سطح عمارتنا كموقع استراتيجي! وأقفلنا البوابات الخارجية بإحكام والتزمنا بيوتنا في نهارات وليال يتراشق فيها الطرفان قذائف"الآر بي جي" التي غالباً ما تجد مستقرها في شقق "الوست هاوس".
في تلك الحرب، انقطعنا من الطعام والمياه والدخان، وتقاسمنا لفترة ما لدينا بشكل مشترك، ثم حرص كلّ منّا على الاحتفاظ بمخزونه من الجبنة والبطاطا والمعكرونة...بعيداً عن أنظارالجائعين!
اختار سكان العمارة أن يكون التجمّع المركزي اليومي في الطابق الثاني، أمام شقتي.
وهناك، في الفسحة الواسعة نسبيا، تتوزع المساند والسجادات والكراسي، ويحتشد الشبان وصغار السن على الأدراج. كنّا نتشارك خوفنا فقط! كنّا أيضا نستعين بشجاعات لا نمتلكها لكي نستهين بأصوات الأعيرة النارية والقذائف الصاروخية التي تصطدم بجدران شققنا! وكنّا نراقب،بذهول، كيف انتهت الحرب في كلّ بيروت باستثناء هذه البقعة التي لا تضمّ أكثر من 7عمارات، والتي تحولّت إلى "جزيرة" خارج لبنان وخارج نشرات الأخبار.
في الليلة الأشرس، وأظنّها كانت الأخيرة، بدا الجميع غير مؤهلّين لمزيد من الصمود! بكاء هستيري، انهيارات عصبية، شتائم غاضبة و...صمت.
لا أعرف ماذا يفعل البشر في مثل هذه اللحظات، لكنهم في النهاية يجدون أنفسهم أمام خيارين، إما الاستسلام وإما الجنون! اخترنا، بلا اتفاق، أن نجنّ!
قام زياد غالب إلى شقته للحظات، وعاد ومعه الغيتار...
خلال دقائق، كان تجمّع المذعورين قد انقلب إلى جوقة تغني لفيروز ومارسيل وبريل وأزنافور..
شقّت جارتنا رئيسة حجازي طريقها بصعوبة، إلى شقتها في الطابق الرابع، لتعود بعد دقائق وتهتف من أعلى الدرج: "Surprise"!
كانت مفاجأة مجنونةأيضا! "طنط رئيسة" ضحّت بآخر زجاجة ويسكي لديها، وراحت توزّع أكواب الويسكي مع الثلج وصحون الجزر المملّح والفستق السوداني على "الجمهور".
وتغيّر مزاج الأغنيات، فحضر صباح فخري وكارم محمود وسيّد مكاوي مع وصلات لأم كلثوم وآهات...وكانت أصوات الفرح الصاخبة في الطابق الثاني من "الوست هاوس 1" أعلى من أصوات الحرب، ومع كلّ قذيفة تنطلق الحناجر إلى طبقات أعلى.
هل بوسع المرء أنينسى مثل هذه الليلة؟
بل، هل بوسع من عاش جولات العنف في بيروت أن ينكر كم كانت الحرب حميمة؟!
مع الوقت، سيصبح العاملون في "الوست هاوس" جزءاً من العائلة الواسعة.
أبو سيمون، مديرالبناية، الذي لم نلمح ضحكته أبداً، لكنه امتلك وقار وأناقة مدير فندق فخم، مع تلك البشاشة المصطنعة التي تتطلّبها المهنة. إنه من زمن بيروت السياحي الذي كان يوشك على الانقراض.
أبو سيمون سينقطع عن العمل في وقت لاحق بسبب خطورة انتقاله اليومي من "الأشرفية" حيث يسكن، إلى "الحمرا". سيمارس شكرالله لطفي، نائبه، مهام المدير.
شكرالله من قلائل يشبهون جيل الستينات والسبعينات في بيروت. لطيف واجتماعي وزير نساء، وخلق ليكون مدير فندق في لبنان.
وبما أنه أقرب الينا في السن من "أبو سيمون"، فقد اقترب شكرالله من جلساتنا وشاركنا سهرات اللهو، ولكن بتحفظ أنيق يليق بمدير حذق لا ينبغي أن يبالغ في الروابط الشخصية مع"الزبائن".
أما جمال العس، الشاب البقاعي الذي يعمل على "السنترال"، فقد صار صديق الكلّ! جمال المرح والذكي استطاع أن ينسج أفضل العلاقات مع السكان، وكان دائما قادرا على تلبية أيطلب في أي وقت.
أحبّ جمال فتاة لايعرفها، عبر التلفون، وضحكنا طويلاً على قصصهما! لكننا في نهاية المطاف حضرنا خطوبتهما، ومن ثم زفافهما! كان "السنترال" قدره...
مدير "الوست هاوس 2" كان رائد عرنوق، شقيق صاحبة العمارة، وكان يفعل كلّ شيء الا ادارة العمارة.
رائد الذي لا يخرج من شقته الا بهندام الذاهب إلى سهرة، يشبه نفسه ويشبه بيئته، فهو ابن عائلة أرستقراطية متحدّرة من طرطوس، وعاشق لبيروت وخبير في أسرارها النهارية والليلية، وكان يختلق كلّ يوم تقريبا غداءات او عشاءات لا مناسبة لها، سوى أن نجتمع ونطلب المشاوي من "مطعم الباشا"، ونشرب العرق.
كان رائد يمتلك محلاً لبيع وتأجير كاسيتات الفيديو، ومن حظه أن المحل جزء من العمارة، فقد كان يفتحه وينساه! لا أذكر أنني رأيت زبوناً واحداً عند رائد، وحين كنّا نطلب منه كاسيتات وأفلاماً، كان يرفض تقاضي أجرتها، وغالبا ينسى استرجاعها.
عشنا في "الوست هاوس" حياة كاملة، فيها كلّ شيء...
فيها الحرب والخوف والسهر واللهو والتهريج، وفيها الصداقات والخيانات، وفيها الثرثرة والنميمة والتضامن عند الشدائد، وفيها قصص حب تولد وتعيش، وأخرى تولد وتموت...
بل حتى فيها واحدة من أبشع جرائم القتل التي هزّت بيروت آنذاك!
استقبلنا كثيرين وودّعنا كثيرين، وثمة علاقات انتهت مع انتهاء "الحيّز الجغرافي"المشترك، وعلاقات أخرى استمرت في جغرافيا أخرى.
كثيراً ما سمع مني الأصدقاء أنني سأكتب يوماً رواية أسمّيها "بناية أم متري"، أضمّنهاحكايات آخر "الديناصورات" الذين أتيح لي أن ألتقيهم، والذين تختصرتجاربهم وقصصهم بيروت ما قبل الحرب، لكنني كنت أكسل من أن أقوم بهذا العمل الذي أحاول اليوم لملمة بعض ما بقي منه في الذاكرة.
_____________________________________________________________________________________________
*الصورة للفنان صالح بركات