كان.
والمكان، الأرض قد تكون لمن يعمل لها، لكنها دائماً لمن يترك الحب ملتصقاً في القلب، بكلّ تفاصيل الحياة، منذ تعريف الذات إلى هلاكها دفعة واحدة، الأمراض التي تطيح بجذور الحياة، عجزة الأمكنة وساكنيها، ليست سوى التفاف قذر حول القلب، فتعتصره لينتهي دفعة واحدة.
بيوت ما زالت شاهدة، اللون الأزرق للحوارة " الجص" يترك انطباعاً بأن الحياة لا تنتهي في المكان، "الكتبية" التي سميت نسبة لرفوف في الجدران عند الأغنياء للكتب مؤونة تشدق بالرفاهية غالباً، بينما في بيوت الجص يتوضع الزيت والمكدوس وقوت الأرواح التي حفرت وجوه أصحابها لعنة الفقر.
"الاتريك" أو النيون لم يستمر ليوم واحد في بيوتهم، في بيتٍ أعرفه جيداً، من طينه الخارجي ولون أحذية ساكنيه، أعرفه بالصنبور الذي يقف كفزاعة في منتصف الحوش الكبير، قالت صاحبة البيت "ركبنا الاتريكة يوم واحد، تاني يوم كسرتو، ما حسنت نام حدو ولا نعمل شي انا وأبو الولاد والعالم عم تشوفني" فكان الكاز والفتيل، والحب.
لا شيء قليل يُقدم هناك، الوجبة الدسمة للسعادة، تُعدها أيادي حصادي الأمس، ببطء المتقنين لتشريح القلب، "الدوبيركة" لا تدعك ناسياً للمكان ولو بعد هجرة وخروج وموت، طعم التبغ هناك مخلوطاً برائحة الحطب المعد للدفء والبطاطا المشوية، كل شيء يؤسس للسلام الداخلي، كل شيء يصيب في القلب أماكن القتل.
في تلك البيوت، لا خوف من شيء سوى الضباع (الضباع التي لم تعد موجودة في سراقب منذ بداية خمسينات القرن الماضي)، كان أحد أصحاب البيوت يُصر على وجود ضبع متربص به عند عتبة الغرفة التي كُسر بها اتريك اليوم الوحيد، أنيابه اللامعة ولعابه الذي يقطر بلا توقف، كان مجرد صنبور الماء في الحوش ذاته، حيث لا فزاعة في القلب سوى خيالات لا تُنسيها أعمدة الانارة البعيدة، أو خط النور الذي أصبح دليل تفاوت الطبقات هناك، في مجتمع لم يأكله الضبع ولا ذئب ليلى.
الخارجين من الجب دون انفجار اللغم، أولاد العم والأهل، الذين عاشوا الفقر كله، والحزن كله، أصبحوا أهل الكل، تعالوا حتى أصبحوا نجوم سهرات وحكايا ليلنا، كانوا أهل الطين والحكايات هذه، حيث لا خوف كلما مروا في البال، حيث ضباع الوقت تحاول نهشي في البعيد وأكل كل ما فات، لأنسى، ولا قلب.
___________________________________
**محمد حاج حسين - كاتب سوري
* الصورة لأحد "حيطان سراقب" من الانترنت