كان الإقطاع كسوء الأيام الحالية مُخيماً، ضارباً جذروهُ كشجرةٍ لعينةٍ لا يُرجى منها خيراً، أخبروني جميعاً بأنهم التحفوا ببطانية مُهترئة، في بيتٍ من طينٍ تدخلهُ الريح من كلّ مكان، وتُمسك القلب.
القلقُ من الكثرةِ لم يُعق جدي، كان يحاول حماية عائلته، يُرسل أبنائهُ للعمل لدى الإقطاعي الذي استدان منه، تسعةُ أولادٍ وأمٌ أذكرها جيداً، جدتي التي أحببت، صنعتْ لهم الطعام من كل شيء أبكاني، أوراق الحشائش وبعض الخبز من النخالة، قالتْ عمتي أن فُقرهم رافقهم أكثر مما رافقتهم رحمة الله، وأنّ القحبات اللواتي كنّ يأخذن من جدي كلّ المحصول كانوا قحبات في كل شيء حتى مناظرهن وهن يحاولن جمع بقايا القمح من الأرض.
عمتي رحلت مع أختها تحت قصف البراميل في عام 2013، رحلتْ وما زالتْ تُصلي كما عرفتها، خمسُ كلمات من القرآن وكثير من الأدعية لكل أبناء قريتنا الذين تعرفهم، وحين أصبحت بين يدي من تؤمن به، أظن بأنها تلومه على وجود القحبات والحرب والريح التي لم تمنحها أماناً أبداً.
كان جدي يجمع المحصول مع أولاده، يأتي الجمعُ الخراء، النفوس التي لا تشبع والرأسُ الكبير، ثم يُثمنون جُهدَ هؤلاء المُدانين، ويجمعون كل شيء ويقررون أنّه ما زال أمامهم الكثير لينتهي الدَين، في يومٍ قرر فيه أحدُ كرماء القرية دفع النقود التي تُحل هؤلاء من قيدهم، قال أبي أن جدي بكى كطفل صغير ونام يومين متتاليين حتى ظنوا أنه قد مات.
بدأوا يومها بالحياة كما يُفضل عمي الكبير اعتبارها بداية حياتهم الحقيقية، ملأوا المنزل بالزيت والطحين وكل مستلزمات الحياة وكثيراً من الصلوات لإسم الرب الذي أخمد الريح، وزاد النار استعاراً في ليالي الشتاء مع مواويل عمي الذي كان يصر على ذكر نجاحهم بعدها بالاهتمام برزقهم، الكرم والبقرة والأرض.
كان أبي أوسطهم، يحبهم جميعاً، عهدوا له برعي البقرة والتي يُصر الجميع على تسميتها المبروكة، كان جدي عائداً من الرعي في جدار المعلوسة* بجانب تلة الشيخ منصور حين انساقت البقرة الى أحد الحفر، أمسك جدي اللجام وبدأ بسحبها إلا أنّها كانت على وشك سحبه، فصرخ "يا شيخ منصور، لا تقطع أكل العيال، يا بو الكرامة يا شيخ"، ثم يعتقد جدي أنّ قوةً خفيةً ساندته لسحبها، عاد للمنزل واحتفل مع أولاده ولم يتكلم في القصة إلا قبل وفاته بعام، حيثُ يصر الجميع أنّ أهل الكرامات يموتون حين يُكشف سرهم.
كان أبي يحاول التعلم إلا أنّ جدي أرسل عمي الذي يلي والدي في الترتيب للدرس، وترك والدي للرعي، أصبح عمي معلم مدرسة، عماي الكبيران كانا عتالي محصول وحواصيد سبل، عمي الأصغر درس أيضاً وعمل في المعمل الذي يقع غربي المدينة، المعمل الذي أصبح بعد تقاعده ثكنةً تقصفنا كل يومٍ بالمدافع التي أسميناها "الي أحسن من غيرا"، وكلّهم تفرقوا بعد الزواج، وبقي البيت القديم فارغاً، ملأناهُ خراءً وبولاً حين كنا نأتي لقطف التوت من الشجرة التي عمّرت أكثر من الدفء في زوايا هذا البيت.
يقول أبي أنّه أصبح محبوباً من قبل الأغا أو السيد، لا أذكر تسميتهُ الحقيقية وقتها، إلا أنّه كان صاحب الكلمة الأولى في القرية، فأصبح والدي يهتمُ بشؤون مكتبه، يسكبُ القهوة للضيوف الذين يذكرهم بأسمائهم، ضابط من حكومة القوتلي، شيخ من الأزهر، حفيد السلطان من أنقرة، والبعثيين جميعاً، حتى أنّ قدوم عبدالناصر في الخمسينات للقرية لم يكن بالنسبة لأبي الذي ارتدى ثوب نسوةٍ برفقة صديقه الأقرب لقلبه ورقصا أمام عبد الناصر وقدما فرحاً لكل أهل القرية الذين ظنوا أن الله أرسل نبياً جديداً اسمه ناصر، أرسله مع الريح ووعود النهضة، لم يشأ أبي الاعتراف بأنّهُ خذلهم، الا أنّه قال لي مرة : "ما في حاكم الا وخذلنا، بس بدنا نعرف نعيش".
ذهب للخدمة العسكرية، وحضرَ حرب النكسة، وكيف كان الجو مليئاً بالكذب، وأن الانتصار الذي هللوا له قبل ساعات انقلب هزيمة لم ينسَ تفاصيلها يوماً، الله الذي خذلهم بهذا النبي، خذلهم في كل شيء بعدها، الاخوان والبعث وكذبة تشرين وحتى في منحهم سلاماً لم يكن كاذباً لمدة أربعين عام، لم يشأ أبي القول بأن كل شيء تعلمناه وتعلمه كذبة، الا أنّه قال: "خود الي بالصدور وشوية من الي بالسطور".
حين أنهى خدمته عاد لينقل ما تعلمه للقرية، صنع براكيةً صغيرة، يبيع فيها الفلافل والعجة والمقالي بأنواعها، يبيع الميلو والشاي والقهوة، توسع بعد فترة وامتلكَ دكاناً صغيراً، قبل أن يشتري بصبحة عمي الكبير محلاتنا التي أصبحت أول محلات لعائلتنا، وفيها وضعَ التلفاز حيثُ كان الناس يجلسون ويحضرون البث المباشر للمباريات والمسلسلات والأغاني.
.....
*جدار المعلوسة: منطقة شرقي سراقب.
_________________________________________
** محمد حاج حسين - كاتب سوري
* الصورة من موقع (http://transparen-sy.com)