"أنا الذي
يحلم كالأطفال
وليس عندي قصة أرويها
أجلس عند بابي
أرسم في التراب
أشرعة
أبحر فيها..."!
هذا هو منصور الرحباني الذي عرفته، ولم أرغب أن أعرف وجوها أخرى له، في ما صار، ولا زال يصير، من نبش للماضي، والتدّخل في علاقات شائكة جمعت بين رجلين لا يتكرران هما عاصي ومنصور الرحباني، وبين أيقونتهما التي حلّقت إلى فضاءات لا تطال وحملتهما معها إلى الخلود: نهاد حداد الشهيرة بفيروز!
عرفت منصور قبل "الحسناء"، بسنوات. كان ذلك حين ذهبت اليه في مكتب الأخوين في "حرش الكفوري" في بيروت، لتسجيل حوار اذاعي معه لا يتجاوز الساعة لإذاعة "صوت الوطن".
يومها، أنهينا التسجيل، وأمضينا ساعتين في الحكي والثرثرة كصديقين عتيقين! وحده منصور الرحباني بين الذين التقيتهم من "أبطال"، يمتلك تلقائية التخفّف من أمجاده و"أعماره"، لكي يصادق صحافيا في بداياته المهنية لا يتجاوز الثانية والعشرين من عمره.
قلت له، بكلّ البراءات التي كنت أظنّها سذاجات العمر الطري، بأنني أعرفه جيدا قبل أن نلتقي! وابتسم كمن يستقبل مديحا اعتاد على سماعه! لكنني أردفت: عرفتك من خلال صوت فيروز...
سحب ابتسامته بسرعة، وخلال أقل من دقيقة حولّها إلى ضحكة وهو يقول لي: "انت ملعون يا صبي أو بسيط؟"! والحق أنني كنت "ملعونا" و"بسيطا" معا، لكنني اكتفيت بالإجابة على سؤاله الودود: لا، أنا فيروزي فقط، مثل عاصي ومنصور والملايين!
أعجبته المقاربة! أعجبته لأنها الحقيقة التي يعرفها أكثر مني...
لاحقا، سألتقي به كصحافي عدة مرّات، في مكتب الأخوين، وفي منزله الجميل في انطلياس، وفي كواليس المسارح في "كازينو لبنان" و"البيكاديللي" و"بيت الدين". وسأجري معه عدة حوارات، بينها ما هو صاخب ومثير، ولا يخلو بعضها من مماحكات لم تفسد ما بيننا من ود. كما سألّبي عدة دعوات على الغداء كصديق، فمنصور كان أكولا ويحب دعوة الناس إلى الطعام، وفي جيبه دائما حبوب مكافحة الكوليسترول والشحوم الثلاثية، يقدّمها لضيوفه قبل الأكلّ!
في صيف 1990، منحني منصور حوارا طويلا روى فيه قصة حياته. كان ذلك في أحد فنادق "الحمرا"، وقد نشرت هذه الذكريات على حلقات في "الحسناء".
اليوم، عندما أعيد قراءة هذه الحلقات، أكتشف أن منصور كرر معظم ما جاء فيها، بشكلّ شبه حرفي، في العديد من اللقاءات الصحافية والتلفزيونية! لقد أتقن منصور "الدور"، واختار بأنتقائية واضحة "الكلّيشيهات" المناسبة للأعلام!
مع ذلك، أعتقد أنني نجحت، إلى حدّ ما، في استفزازه ودفعه إلى بوح عذب، خصوصا في ما يتصل بعلاقته مع شريكيه في التجربة الأسطورية: عاصي وفيروز.
عاصي هو المعلّم! هكذا يختصر منصور الحكاية...
قال لي يومها: "أنا أصغر من عاصي بسنتين، والدنا عزلنا عن الناس، فعشنا مع بعضنا البعض فقط! وعزلنا عن الحياة، فصادقنا الطبيعة والسماء والغابات والرياح! كان عاصي أخي وقائدي ورفيقي، وكنت أصدّق كلّ حكاياته! أولّ مرّة سحرني فيها عاصي، كانت عندما حبسنا أبي في "العلّية"! وهي غرفة على السطح تستخدم لأغراض شتى، وتتحوّل إلى "حبس" يعاقبنا فيه "أبو عاصي" عندما نرتكب مشاغبات أو نخالف تعليماته ونطيل الغياب في الحقول! في محبسنا الصغير ذاك، روى لي عاصي حكايات غامضة، عن أشخاص لا يكبرون، ولا يشيخون، ولا يموتون، ويعيشون في سعادة وعدالة! أعتقد أنني في تلك الليلة صرت شاعرا..."!
ربما كانت المرّة الوحيدة التي باح فيها منصور، بعذوبة، أنه كان كسولا ومنطويا في حين كان عاصي مبادرا وجامحا وصاحب أفكار لا تخطر على بال: "غرت منه كثيرا، وحاولت منافسته، لكنه كان دائما "أرجل" مني! لقد تعلّمت منه كلّ شيء حتى آخر لحظة من حياتنا التي انتهت بموته! وسأظلّ أتعلّم منه حتى آخر لحظة من حياتنا التي ستنتهي بموتي"!
صوت فيروز هو الجمال، والجمال لا يوصف! هكذا قال لي منصور يومها، معتقدا أنه قطع عليّ الطريق! لكنه ما لبث أن حكى، متذمّرا من تأثّري بالأسلوب "المصري" في الصحافة، باعتبار أنني أسعى إلى الميلودراما وأبالغ في العواطف! كان من حقه أن يغضب قليلا، لأنني نجحت في دفعه إلى الكلّام عن فيروز بعد انفصالها عن الأخوين، وبعد انتشار الشائعات عن قطيعة بينهما!
قال لي: "للأسف، عندما سمعت فيروز أول مرّة في احدى غرف الإذاعة، لم يعجبني صوتها! قلت حرفيا "مش زيادة"! لقد خانتني الفراسة في تلك اللحظة...
في الحقيقة، لقد جاء صوت فيروز متوّجا، والمتوّج يأتي وفوقه هالة. انه صوت مفرد يلامس شغاف القلوب، اخترق مباشرة المسافة إلى الناس ووصل إلى أعماقهم، وقد حمل تجربتنا وأوصلها إلى الملايين"!
قاطعته بأن القول بأن صوت فيروز حمل تجربتهما فيه ظلم للتجربة، وان الأخوين حملا ايضا تجربة صوتها! كنت أعرف أنني دخلت إلى منطقة ألغام...
أوقف منصور التسجيل لدقائق وهو يفكر بهذا الكلّام! حاول أن يقول لي ما قاله لاحقا لكثيرين، حول الفرق بين المبدع وبين المؤدي، بين صاحب الكلّمة وبين من يحمل الكلّمة وينشرها! قال أن المضمون هو الأساس مهما كانت عظمة الصوت، وأن وأن وأن...
ثم صمت قبل أن "ينفجر": "يا طلال، زياد وأمه يعملان على اصدار كتيب يفصلان فيه أعمال عاصي عن أعمالي! هناك شخص خبيث أقنعهما بذلك"!
لا أدري من أين أتتني الجرأة، وأنا لا أمتلك أي معلومات عن هذا الأمر، لأقول له بصوت جازم أن هذا لن يحدث! لا فيروز ولا زياد يمكن أن يفعلا ذلك! بالمقابل "أنت متهم بأنك وراء الأبواق التي تنهش في فيروز على المستوى الفني والشخصي"!
لم يطردني! قال لي: رفعت لي ضغطي! افتح آلة التسجيل...
وفتحتها! وقال: "فيروز وعاصي وأنا، جمعتنا صدفة عظيمة من صنع القدر. بدأنا ثلاثتنا كما يبدأ الحالمون! كنّا "جماعة" بائسين، نجتمع في غرفة ونحلم، عاصي يؤلّف ويلّحن ويعلّمنا! عاصي هو المعلّم الذي فتح لنا كلّ الدروب، وفيروز هي مجدنا الذي سيتألق طويلا في الزمان، وأنا كنت "التكنسيان" إلى جوار أهم شاعر دراماتيكي في هذا العصر، وإلى جوار الصوت الذي تحوّل معه الغناء إلى سحر يجيء من عوالم غامضة! انبسطت يا طلال؟!"...
انبسطت يا أستاذ منصور...لكنك لست "التكنسيان"! أنت منصور قلب الأسد!
حصل أمران مؤسفان وصعبان في تجربة الأخوين رحباني وفيروز.
الأول تزامن انفصال فيروز عنهما مع نضوب لم يصدّقاه ولم يعترفا به! أعمالهما القليلة بعد فيروز لم تكن متوهجة، وبدا واضحا أن الينابيع تجفّ فجأة لأسباب لا يعرفها أحد!
الأمر الثاني كان بعد موت عاصي. لقد استمرت فيروز وحدها، ومع الوقت صارت هي "الأخوين رحباني" بالمعنى الفني، حتى عندما تغني لزياد. وكذلك استمر منصور، ولكن تجربته الطويلة منفردا ابتعدت عن الأخوين! لا يختلف اثنان، بأن انتاج منصور الرحباني المسرحي والغنائي، لم يكن امتدادا لما سبق! لا شك أنه هو أكثر العارفين لذلك، وأكثر الغاضبين من الحياة بسبب ذلك!
المفارقة، أن صوت فيروز لا يحضر أبدا، حتى اليوم، الا ويحضر الأخوان رحباني! لقد منحتهما الأستمرارية والوصول إلى أجيال جديدة! لم تقصد شيئا مما فعلته، لكنها فعلته فقط...
هل ستستاء فيروز اذا قلت أنها لم تكره منصور الرحباني أبدا؟!
لقد التقيا قبل القطيعة الأخيرة، وتعاتبا!
قالت له ما سيحزنه مدى العمر، بأنها لم تشعر يوما، طوال سنوات الفراق بينهما، بأنها تتمنى أن تغنّي ولو واحدة من أغانيه الجديدة!
قال لها بمرارة بأنها لا تحبّه! وأجابته بأنها تحب منصور عاصي!
لا أجرؤ على الاقتراب أكثر من ذلك، من هذه العمارة الشامخة التي تحمل أسماء فيروز وعاصي ومنصور. سأبقى أنظر اليها من تحت إلى فوق، لأراها دائما كما هي وكما أحبّها، جذورها تحفر عميقا في الأرض ومداها يمتد متوغلا فوق السحاب...حيث لا يصل نظر، وحيث نغمض العيون فقط ونكتفي بأن نسمع "بيتي أنا بيتك"!
عاصي، بعد مرضه المفجع المبكر، ثم بعد موته الحزين، جلس في مقعد "العبقري" المحاط بهالة من القداسة.
فيروز، صارت رمزا، والرمز "حبس" كما قالت هي يوما! فجأة، لم يعد لدينا سوى فيروز، لكي نتنصّل من أي مسؤولية أخلاقية، عن انهيار وطن وموت أحلام وسقوط قيم! صارت صكّ البراءة لنا، فرفعناها إلى "فوق"، وأكملنا بكلّ بربرية ما نفعله نحن "تحت"!
منصور، بقي له الدور الشاغر: دور الأنسان الذي يعمل ويخرج إلى الحياة ويحكي في الأعلام ويدعم "البزنس العائلي" ويخطئ ويصيب! وقد سمح قبل أن يرحل بكثير من الأخطاء!
كنت أحتفظ بنسخة من كتابه "أسافر وحدي ملكا"، وقّعه لي في جلسة صباحية في بيته ذات كانون ممطر. كتب لي: "يا طلال شتوي، أيها الاسم المتوّج بالبرق والريح، تجيئني هذا الصباح، حاملا فرحاَ وضوءَ، كما يحمل قلمك مدن الحداثة إلى الصفحات البيض"!
عام 2008، أهديت هذه النسخة إلى "نيشان" الذي لم التق به أبدا! أرسلتها له مع ربيع غالب، وقبلها على الهواء ووعدني بأن يحافظ عليها! كانت تلك هي طريقتي الرومنسية في "الزعل" من منصور، كما يزعل شخص من أهله!
سأصالح منصور الرحباني يوم رحيله! سأبكيه في مرثية اخترت لها عنوانا من احدى قصائده:
"عارف منذ البداية إلى اين
فلماذا صراخك الليلي يا قلبي"...
___________________________________
** طلال شتوي - كاتب لبناني
* الصورة (طلال شتوي و منصور الرحباني) من أرشيف الكاتب.