30 Jan
30Jan

فجأة، وجدت سوسن سمّاقية أمامي.

اقتحمت المسؤولة عن السنترال مكتبي بلا استئذان، وألقت اليّ بصوت مضطرب لاهث 4 كلمات: السيّدة فيروز على الخط!

كانت بيروت بلا كهرباء، وبلا مولّدات خاصة ايضا، ولم يكن بوسع سوسن أن تحوّل الاتصالات الى المكاتب. كنّا نقوم الى غرفة السنترال، لكي نرد على الاتصالات الهاتفية التي تصلنا.

السيّدة فيروز على الخط...

كلما تذكّرت أول جملة قلتها في تلك اللحظة لسوسن، أدخل في نوبة ضحك لا تنتهي! رفعت رأسي ببطء عن الأوراق التي كنت غارقا فيها، وبادرت سوسن بشكل تلقائي: وماذا تريد؟!

ورغم التوتر الذي أفقدها نصف تركيزها، وهي تسمع صوت فيروز على التلفون، فأن سوسن جزمت في سرّها أنني قد فقدت نصف عقلي أنا الآخر! تخفّفت من كلّ تحفظّها وصرخت بي ضاحكة: أستاذ طلال، أسرع! انها تطلبك! وأسرعت. أمسكت السماعة وقلت بصوت مرتجف كلمتين: "أهلا ستنا"...

كنت قد تلقيت من فيروز قبل سنتين بطاقة زرقاء واسطوانة "معرفتي فيك"، وكان جوزف حرب قد أخبرني باقتضاب، أن فيروز أحبّت ما كتبته عن أعمالها الجديدة. قال لي: احساسها أنبأها، دون أن تلتقيك، بأنك صادق! ولكن لا تتوقع أكثر، فالحصول على ثقة فيروز صعب! الثقة "كلمة كبيرة" في قاموسها...

لاحقا، سيخبرني جوزف باقتضاب أكبر: سئلت عنك، فأجابت "هيدا صديق"!

ولم أكن أطمح الى أكثر من ذلك، فأنا بدوري كنت أخاف الاقتراب من فيروز، مكتفيا بأن يحرسني صوتها، عن بعد، مثل أي "ديكتاتور" عظيم، من سائر الأصوات! عمليا، لقد حجب عني كلّ الأصوات...

أول تلفون بيني وبين فيروز، كان غريبا. تبادلنا "اللياقات" المختصرة التي يقولها البشر لبعضهم البعض على التلفونات، ثم أبلغتني بأنها مسافرة غدا صباحا الى القاهرة، ولا وقت لكي نلتقي ونحكي. وأعطتني رقم محاميها عثمان عرقجي: اذهب اليه، انه مخوّل بأن يطلعك على كلّ التفاصيل التي تحتاجها بخصوص حفلات مصر.

أوشك التلفون أن ينتهي! لكنني استحضرت كلّ الشجاعة اللازمة، مع قدر غير خفي من "الاحتيال"، وسألتها اذا كان بالإمكان أن أرسل لها مجموعة أسئلة، 10 أسئلة فقط، لكي "ندعم" التحقيق! ضحكت وسكتت لحظات، ثم قالت لي: أرسل الأسئلة، وستجد الأجوبة غدا صباحا عند "الكونسيارج" في الروشة.

وفزت بأول لقاء مع فيروز! لقاء "بالمراسلة"، سأتعرّض بسببه، بعد سنوات، الى سخرية محببة من زياد الرحباني الذي أضحكته فكرة أن نتراسل بين "الرملة البيضا" و"الروشة"، في حين لا يفصل بيننا أكثر من كيلومترين!

كانت فيروز تتعرّض، صيف 1989، الى حملة شرسة ووقحة في عدد من المجلات، بسبب حفلات القاهرة. وكنت عازما على الرد على هذه الحملات بشراسة، ولكن بدون وقاحة، وأخبرت جوزف حرب أنني بحاجة الى معلومات تدحض الأكاذيب التي يجري ترويجها وتداولها في الأعلام. وقد أتى تلفون فيروز المفاجىء لكي يكلّفني جديا الرد على كلّ ما نشر من مغالطات، لم يكن هدفها سوى الإساءة الى فيروز.

قيل يومها الكثير عن "شروط" فيروز، وعن الأرقام المالية الخيالية التي ستتقاضاها، وعن 10 سيارات "ليموزين" تريدها تحت تصرّفها! قيل كلّ ما هو معيب ومضحك في آن، والأهم أنه لا يمتّ الى الحقيقة بصلة...

تمّت الأشارة ايضا، وبخبث مفضوح، الى أن فيروز ذاهبة لأحياء الحفلات، بينما لبنان يعيش يوميات الموت والدمار، في واحدة من أبشع جولات العنف التي يشهدها خلال محنته الكبرى التي نسمّيها "الحرب الأهلية"!

كان الرد قويا... وبالأرقام والتفاصيل الدقيقة! كانت الحقيقة أبلغ رد، وقد وضع عثمان عرقجي أمامي كلّ العقود والنصوص والمراسلات التي أتاحت لي أن أوصل الحقيقة الى الناس.

في الواقع، لم يتلق رجل الأعمال السعودي المقيم في مصر، عدنان الخاشقجي، موافقة فيروز على الحفلات، الا بعد سنة ونصف السنة من المفاوضات، تسلّح خلالها الخاشقجي بوزارة الثقافة المصرية التي اعتبرت فيروز "ضيفة رسمية"، ووضعت جدولا حافلا باللقاءات التكريمية لها برعاية الحكومة... وقالت بلسان وكيل وزارة الثقافة: "لدينا في مصر حدث تاريخي هو الأهرام، ونريد تتويجه بعملاق بمستوى فيروز"!

أما "شروط" فيروز الحقيقية، فكانت تتعلّق، كالعادة، ب أين ستغنّي، وكيف، ولمن! لم تشترط فيروز "الفخامة"، اشترطت "القيمة"، والفرق كبير بين الأمرين! ولم يغب عنها، وهي التي اعتلت أرقى وأهم مسارح العالم، أن الوقوف على مسرح "الصوت والضوء"، قبالة الهرم، بكلّ ما يختزنه المكان من رمزية تاريخية وحضارية، هو ما يليق فعلا بإطلالتها المصرية بعد غياب.

قرأت يومها عددا من الرسائل البرقية المتبادلة عبر "التلكس، بين فيروز وبين ادارة المهرجان، تصرّ فيها السيّدة على طرح 2000 بطاقة للبيع، من كلّ حفلة، بأسعار تتراوح بين 20 و40 دولارا أميركيا، علما أن القاعة لم تكن تتسع لأكثر من 4000 مشاهد. كانت تريد أن تكون لكلّ جمهورها.

بحثت في العقود عن السيارات التي ستوضع في خدمة فيروز، ولم أجد سوى سيارة واحدة، لم يحدّد العقد لا طرازها ولا نوعها!

أكثر من ذلك، فأن الفرقة الموسيقية التي سيقودها توفيق الباشا، موجودة في العقود أيضا. تمّ الاتفاق آنذاك أن تضم الفرقة عددا من العازفين اللبنانيين الى جانب عدد آخر من المصريين، اختصارا للنفقات. ويحدّد العقد عدد أعضاء الكورال، الإناث والذكور، الذي سيرافق فيروز. أما الفريق الإداري والإعلامي الخاص بالسيّدة، فمتروك القرار فيه لها...أي سيكون على نفقتها!

ويوضح العقد أن فيروز ستقيم في فندق "مينا هاوس" في الهرم، وأن كلّ الآخرين سيقيمون في ملحق تابع للفندق، مع تخصيص غرفة لكلّ شخصين و3 وجبات في اليوم، على أن تكون الاتصالات الهاتفية والطلبات الإضافية، على نفقة أصحابها!

بحثت طويلا عن رقم المليون دولار الذي قيل أن فيروز ستتقاضاه! لم أجده! وجدت رقما متواضعا، خصوصا وأنه يشمل أجور الفرقة الموسيقية والكورال أيضا! رأيت يومها أن الأفضل عدم ذكر الرقم، ولا زلت اليوم أرى ذلك...

كانت تلك أول مرّة يتمّ فيها نشر مثل هذه التفاصيل المتعلّقة بحفلات للسيّدة فيروز. كان لا بد من ذلك!

تلقيت بعد نشر التحقيق اتصال تهنئة من رئيس تحرير "الشبكة" جورج ابراهيم الخوري! فعليا، كانت "الشبكة" رأس حربة في الحملة التي تعرّضت لها فيروز...

وفي السادسة من صباح الثلاثاء، الرابع من تموز 1989، استيقظت "الروشة" على خفق خطوات هامسة لسيّدة تسربلت بالأسود، ومضت ومعها صوتها وما بقي من وطن، في سفر طويل مرهق، عبر قافلة برية ضمّت اوتوبيسا و3 سيارات ووجهتها الأولى دمشق، ثم عمّان التي كان الوصول اليها في السادسة مساء، لتتواصل الرحلة جوا في التاسعة ليلا الى بلاد النيل.

من الأجوبة التي تركتها فيروز لي مع ناطور البناية، اخترت أن يحمل غلاف "الحسناء" العبارة التي تختصر كلّ هذه الرحلة: أحمل لبنان في قلبي وصوتي...

لن أزور فيروز في منزلها في الرابية، الا بعد 4 سنوات على تلفونها الذي لا ينسى.

وصلتني منها "سلامات" في أوقات متفرقة.

وصباح عيد الميلاد عام 1992، ايقظتني العزيزة منى سابا رحّال، ودعتني الى أغرب مشوار يمكن أن أتوقعه: السيّدة بانتظارنا، تعال نزورها ونعايدها! أدركت فورا أنني لن أذهب! شربت مع منى قهوة سريعة، وأخبرتها أنني لا أستطيع مرافقتها، وربما أحتاج الى شهرين من التحضيرات النفسية، لكي أجرؤ على زيارة فيروز! لم تضحك منى. كانت فيروزية رقيقة، وأدركت أنني خائف، كما ينبغي أن يخاف من يريد أن يلتقي فيروز أول مرّة...

في صيف 1993، أتاني العزيز وسام شاهين وقال لي: أحمل اليك كلاما من فيروز لم أفهمه! استوضحتها، فأجابت "قلّو هو بيفهم"!

وقال لي وسام. وفهمت.

قال: فيروز تسلّم عليك، وتقول لك أنها تريد أن تهديك "شمسية"...

كانت نكتة؟! في حال كانت كذلك، فهي أرق نكتة سمعتها في حياتي...

في اليوم التالي اتخذت القرار: سأتصل بالست...ونفّذته بعد أسبوع!

تمنّيت كثيرا أن يخذلني الهاتف، لكنه لم يفعل! ثم تمنّيت أن يرد عليّ صوت غريب ويقول لي أن الست غير موجودة! أو أن ترد ريما مثلا وتقول لي أن الست مشغولة وستبلغها باتصالي! لكن سرعان ما أتاني صوتها...

قلت لها قبل أي سلام او كلام: أطلبك سيّدتي..."رقم لقدّام ورقم لورا"! وسمعت ضحكتها! وزرتها! وحكينا! وبقي الحكي خارج الضوء. ان قيل يحترق...

لم تنقطع صلتي بفيروز. لكن "الصحافي" لم يدخل معي أبدا الى بيتها، ولن يدخل!

هناك كلام، ان قيل، يرهق نقاوة الوقت، ويمسح بياض المعنى، ولربما يصير مجرد "ضجيج" لا قيمة له.

وفيروز، المتوّجة بالضوء والعمق والنقاء، أدركت قبلنا، أن كلّ الحكي يقوله الصمت، وأن لا شيء يبقى على مائدة الكلام، الا الصدق يلمع كخفر الأطفال!

والحقيقة؟ لربما تقول نفسها دونما حاجة الى من يقولها!

عندما تتحدّث فيروز، تقفز منها مقدرة امرأة جابهت الضوء والوهج والمجد في باحات العمر الخارجية، أما الداخل فبقي بسيطا، لأن الفرح يكون كذلك، ولأن الحزن يكون كذلك، ولأنها مندورة للوقوف الى الأبد على الحدّ الفاصل بين الفرح والحزن، بين الضحكة والدمعة!

أتذكّر دائما ما قالته لي في أحد أجوبتها على أسئلتي العشرة، بأننا كلّما ازداد حبّنا للحياة، تعمّق شعورنا بالغربة فيها، وأن الحزن هو الوجه الآخر لفرح الحياة...

ولا شيء أضيفه!

انحزت، مثلها، للصمت.
____________________________
** طلال شتوي - كاتب لبناني.
* الصورة (Beirut – Fairouz by Ashekman) من موقع (streetartnews.net)

تم عمل هذا الموقع بواسطة