في ساعةٍ ملطخة بدمٍ منبثقٍ من ثقب فرج الحياة الضيق، ويومٍ مُغمٍ أسود مثل جوع العشرة أعوام على الطرقات، استيقظت من اللاجدوى في محاولاتٍ كُثر لإبتلاع الموت لي، المركب مخدوش ولا أضواءَ اّخر النفق، كل نفسٍ ذائقة الموت، والصبحُ لا بأس فيه، لا ينسى الموعد يأتي دائماً في أوانه، أوانه هو حيث ينتهي أواننا خلف عبثية الليل.
الغرفة رمادية مرصعة بحزن عتيق وأحزان لاحقة مُهيأٌ لها، الصور على الجدار الأيسر كاذبة، والساعة عارية توهم نفسها بستر الزجاج، النوافذ مصدرة لأي موت، تعكس شريط عُمر الحي بأكمله وطيش الله من ذلك المربع الصغير مثل قنوات تلفزة، لكنها لا تحتفظ بالذاكرة، النوافذ زهايمر مبكر لا أدري، أم أنها ذاكرة سمكة، والسمكة أيضاً، لا يزال البحر يفرط بأرواحنا ليهبها لها، لا يزال في معركةٍ دائمة مع الريح، تلك قصة أخرى عن أنانية الريح وغفراننا لها.
استلقيت على الأريكة مثل تَعبٍ قبل الصعود إلى منصة الإعدام ببضع ثوانِ، هي أيضاً لم تتغير، منذ ثلاثة عشرَ عاماً مُكبلٌ بداخلها سُر العروس، الفستان لا يزال قابعاً تحت جلدها رغم أنف الزمن، وغربة القماش عن الجسد، أجلس عليها رجلٌ هائج الذكريات دون استطاعة أو قوة لكبحِ ذاك الهيج، لا تزالُ أثارٌ من عُمرِ مريم عالقة، نظارتها أيضاً تركت ظلها على يد الأريكة، ثم يلوح الفجر مِن خلفها بكل أنانية ويعود الليل ولا شظايا ضوء على الأريكة الخمرية الوحيدة النائية.
أيتها البعيدة، البعيدة، البعيدة، سنيناً عجاف، أينكِ، كُنا نؤسس لفرحٍ معاً وأعيادً كُثر ومذبحةٌ على ذلك الفراش الأبيض، نلطخه شظايانا ونعبث الليل كلّه إلى أن تجيئ يافا، كنا أكتافاً متلاصقة، كنتِ أنباءً عن مقتلي وتارة أخرى نجاة من حرب، كُنتِ العنق وكنتُ أنا الشال المزركش بعهود قطعناها وإسرافٍ في الحب، أيتها الوجه الصبوح ومبسم الله أينكِ!
قلت لك مرةً والكلمات بالكاد تخرج من خلف قضبان غضة: أريدُ أن أضحك فلا تطال الحرب فمي، أريدُ أن أترنح بالقرب من شفتيك وصوتك الخشن، صوتك السبيل إلى الخطايا والليالِ االكافرات. أريدُ أن نلهوَ و"سيتا هاكوبيان" ثالثنا لا المدافع، قلتِ يومها والكحل الكحل يا بنت الله عاصفة وجفنك الناعس سوسن، ورمشك المهتدل يمزقني، صرتُ أخرى من بعد تلك الليلة، قلتِ: "إضحك بإتجاه فمي، خلك قريب، يا بياض ليلك يمي يا بياضه الليل"، أه يا مريم، سلبتني كل شيْ، لم يعد بوسعي البوح بصوت رخو، أريد الصراخ، لكنَ ثوباً في الغرفة المقابلة ينتظرك، لا أريد أن ينتهي بسبب صخبِ موتكِ.يا بنت الله أينكِ.
أيتها البعيدة مثل جناحٍ يحاول اللهو في بركةِ مياه، القريبة مثل أسلاك العود ومسمعي وبنان الأصابع، أيتها المدينة النائية أما من صلحٍ فتقتربين، يا حناء، أيتها الزجل ليلاً عراقياً والصبح خبزاً في يافا، أيتها المكةُ المكرمة يا قدسُ، أينك مني! تعبت أزيح العتب من أمام المراّة، أنفض الأسئلة الاّتية من صوب ثوبكِ والفراش، ونحيب سجادة الصلاة الاّتية من خلف الله بغتة، لقد بللنا العُمر دمعاً وما كُنت تأتين يا مريم.
كتبت كثيراً عن الموت وتسائلت، أين أنتم الاّن طمئنونا، وأنتِ يا مريم، أيتها الكذبة السمراء، كان التعابثُ بي سهلٌ جداً أمام حسنك وعراقيتك التي كانت بارق أملي.
قلت لي مرةً لا نومَ بجعبة جفني إذا لم تكن حاضراً، قلت أيضاً: "خسى اللي يبعد عنك خسى" خسئتِ أنتِ ثمَ يمر العمر إثباتاً ويُكذب العهود والليالِ الزيف.
كنا جالسين عرضةً لصوتِ القذائف، ثم ذهى البلح أمام شفتيك السمراء، شفاهك البقايا من ذنوبنا العالقة، شفاهكِ خبزي يا بنت الله، شفاهك قوتي وإيماني المطلق، وحنائي، قَبلتكِ مرة بينما جسدك لهيب النشوة، قضمتُ لسانك بالخطأ، ثم تدلى منه شجر الكرز، رحتِ تمسحين نقط الدم الصغيرة بطرف الشال، ثم جاء صوت فاضل عواد من وراء دهاليز الستارة حيث مذياعنا، "يالجمالك سومري يالجمالك سومري ونظرات عينك بابلية" ثم صمتَ برهةً وجاء صوت فيروز من الإذاعة ذاتها "صرخ عليهن بالشتي يا ديب بلكي بيسمعوا" لم أفهم ذلك التقاطع الغريب يومها، لكني اليوم جالسٌ، رجلاً في منتصف الثلاثين من غدر العمر أردد "وحدن، وحدن.. يا رايحين وتلج.. وحدن" .
____________________________________________________________
** جمانة دحمان - كاتبة فلسطينية سورية
*اللوحة للفنان العراقي "علي آل تاجر"