تخيل أن تستيقظ يوماً وقد تحولت إلى كائن "كافكائي" لا يشعر بتحوله الفيزيولوجي والنفسي أحد، تعيش منسلخاً عن ذاتك وكينونتك، عن أناك التي أصبحت مشلولةً، عاجزةً، مقعدةً تنتظر خلاصها على كرسيها المتحرك وكل ذلك دون أن يعير أي كائنٍ بشريٍ انتباهاً لك، حتى الأكسجين الذي كان يدق باب رئتيك كل يوم كبائع الحليب الجوال لا يمل زيارته لك وكأن شيئاً لم يكن، تنتفض وتثور وتكيل لذاك الأكسجين اللعين أطناناً من الشتائم وعبارات التهديد والوعيد وبأنك ستشبعه ضرباً إن عاود زيارته لك لكن دون جدوى. عندها تدرك بأنّ الحياة ما زالت تتهافت للتعربش على جدران جسدك المتعب كدالية العنب العنيدة التي احتلت جدران بيت جدك الوديع يوماً ولم تغادره قط، ما زالت تشد على قبضة يدك المرتجفة وتأخذ بك إلى حيث تشاء دون حولٍ لك ولا قوةٍ كتلك الأيام التي كنت تتشبث بها بأطراف أصابع أبيك خوفاً من الضياع، فتستسلم لها وتكمل لعب دورك المفروض عليك عنوةً بصمت كلي تماماً كصمت الأرض المنتشية بعد ليلةٍ شديدة المطر،
تترجل عن سريرك وتمسك بجوالك الذي تبدو عليه علامات السهر جليةً لتبدأ طقوسك الفيسبوكية اليومية التي أصبحت جزءاً من صباحاتك الرتيبة، تقلب بوستات أصدقائك الاعتيادية التي لا تخلو من الاحتفال بإنجاز كروي لفريق أحدهم المفضل أو بعض العبارات الغزلية التي نثرها أحدهم في فضاء العالم الأزرق علّ عبيرها ينسل إلى قلب من يحب فيأتيه ملبياً، ينتابك شعورٌ مربكٌ بالرغبة العارمة لكتابة بوستٍ شجاعٍ تعلن به للناس عن تحولك، تبدأ بنقش الأحرف وصفها قرب بعضها البعض بعناية وحرفية رهيبة وتنتقي التشابيه والكنايات والاستعارات أملاً بأن تخفف من وقع ما تكتب على من عرفوك يوماً كائناً بشرياً، لكن في كل مرة تقرأ ما كتبت تسرع لاهثاً لحذف البوست كلياً، ربما هو الخوف من الحقيقة المحقونة بالإجحاف وقلة الحيلة، ربما هو الأمل الذي يدفعك دوماً من القاع لتطفو مجدداًعلى سطح الحياة، ربما هو النكران والرغبة في مقارعة الواقع والثورة عليه وعدم الاستكانة للوضع الراهن الذي سلبك حريتك وقذفك خلف ظلام إحدى زنزاناته الإنفرادية المغمسة بالصديد والصدأ، تستيقن حينها بأنه لا خيار لك سوى التأقلم مع ماهيتك الجديدة والسير قدماً منتصب القامة كغصن زيتونٍ نحو اللاشيء.
تتجه نحو باب الغرفة القريب جداً من مكان تموضع سريرك وثقل قدميك يعيق حركتك، حتى أن مشيتك لم تعد رشيقةً كما كانت، هي أشبه الآن بالزحف أو الدبيب، تمسك بقبضة الباب والخوف من نظرات من ستقع عيناه عليك يتدفق في جميع أنحاء جسدك كالسم وكأنك تقف على حافة بركانٍ غاضبٍ وتخشى السقوط، تفتح الباب أخيراً كمن استيقظ لتوه من تأثير المخدر فينهال عليك أحد أصدقائك ممن يعيش معك في ذات المنزل دون سابق إنذار بعبارة "صباح الخير"، ترتَبك وتشعر باضمحلال المكان والزمان، تسرق نفساً آخر، تستجمع بعضاً من أناك المبعثرة هنا وهناك وترد عليه تحية الصباح متمتماً إياها باستحياء لتكتشف للتو بأن صوتك قد تغير وبأن حبالك الصوتية هي أيضاً قد خذلتك وتخلت عنك، تسرع بنظرك نحوه لتقيس قوة الموجات الزلزالية التي أحدثها مظهرك الخارجي الــ"كافكائي" وإيقاع صوتك المرعب عليه، فتتفاجئ حينها به ينظر إليك بكل برود بنظراته الصباحية المثقلة باللامبالاة والتي اعتدت عليها وكأنّ شيئاً لم يتغير، فيبعثر هدير صوته المشبع بتأثير ليلةٍ يبدو أنه نام فيها بعمقٍ شديدٍ لحن السكون المهيمن على تلك اللحظة التي ظننتها ستغير مجرى حياتك وهو يسألك إن كنت ترغب بشرب فنجان قهوتك الصباحي برفقته كما هو الروتين اليومي.
يا الله، يارب السماء والأرض، ما الذي يحدث، كيف لهيئتي المرعبة وصوتي المتحترش ألاّ يدفع صديقي للصراخ، للهلع، للخوف، للدهشة، للصدمة، للعويل، للنحيب، للهرب، للرعشة، للفزع، للحزن؟ هل عليّ أن أفرح وأطرب لأنني استطعت التخفي ولم يشعر أحد بتحولي وبطبيعتي الــ"كافكائية" المختلفة عن طبيعتهم البشرية وبالتالي قدرتي المطلقة على الضحك والمزاح والركض والعشق وكتابة الأشعار والاستماع للموسيقى والرقص والحزن والبكاء وتبادل الأحاديث والنكات المضحكة وغير المضحكة مع الأصدقاء وممارسة كل تفصيل من تفاصيل حياتي البشرية السابقة بكليته حتى الرمق الأخير؟ أم هل عليّ أن أحزن وأتحسر لكوني تحولت إلى كائن هلامي شفاف منفصم منبترعن واقعه لا يشعر بألمه ومعاناته لا إنسانٌ ولا جمادٌ ولا هواءٌ ولا ماءٌ ولا سماءٌ ولا بحرٌ ولا أشجارٌ ولا غربانٌ ولا وجودٌ ولا فناءٌ ولا حضورٌ ولا غياب؟
مضى على ذاك الصباح أربع سنواتٍ، أربع سنواتٍ عشت فيها كقطعةٍ نقديةٍ مهملةٍ نُقِشَ على أحد وجوهها معالم كائنٍ بشريٍ يراه الناس طبيعياً ويتعاملون معه على هذا الأساس، وعلى الوجه الآخر رَسْمُ كائنٍ "كافكائي" مخيف لا يعلم بوجوده أحد غيري. أربع سنواتٍ مذ لملمت ثيابي وذكرياتي ونفحةٌ من عطر أبي وبعضٌ من صدى صوت أمي وكمشةٍ صغيرةٍ من أحاديثنا، وضحكاتنا، وسهراتنا الصيفية، ورائحة شواء الكستناء والخبز المحمص على كانون النار الذي اعتدنا التحلق حوله في ليالي الشتاء الحنونة، وكثير من الشوق لمدينتي، لشوارعها المنشغلة بهموم الدراويش، للأرصفة المحفرة، لبرك الوحل، وحبال الغسيل، وعيون الصبايا، ودلع القطط، لسندويش الفلافل، وغزل البنات، لسوق البالة، للفقراء القابضين على الحياة، أربع سنواتٍ مذ أدرت ظهري للوطن وأدار ظهره لي، كعاشقين متيمين يهيمان حباً ويخشيان البوح!!
_________________________________
** طارق يوزباشي - كاتب سوري
* الصورة من الانترنت