هذه الصورة بتفصيلين، هذه الصورة بذكرى العودة إلى برج حمود، وتركِ كلّ شيء خلف القهر، والابتعاد لورشاتٍ ودهان وعمل، برج حمود تعني ألا مزيد من الترنح خلف الكؤوس والطاولات، لا مزيد من النوم بلا أمل والصباحات التي بلا طائل، في هذا اليوم حملت أخر قطعة لي في البيت القديم وذهبت إلى حيث قضيت كلّ أيامي في لبنان، حيث الإخوة الذين أحب، والقهوة التي أحب، والجارة التي نحب.
في مثل هذه الأيام ومن هذا المكان الذي تركزت به تفاصيل وجوه تمر بي لتشرب قهوة قبل العمل والصعود في الباصات التي تقلنا جميعاً إلى الورشات ومناجم الحياة في لبنان، وبجانب آخر من التفاصيل أرسلت "اعترافات المسخ" للشارقة، وكانت آخر ايميل رسمي في سنة 2016 (حيث توقفت عن مراسلة الجرائد للعمل والكتابة "إلا شباب السفير .. كانت عائلة وليست جريدة").
وجدت أهلاً لي في كلّ زاوية من زوايا الحيّ هذا، مرّ بي كلّ أصدقاء الأمس واليوم والقادمات، عرفت كيف يمر الحزن، وكيف يقبع الجوع في الأيام بلا أي رحمة.
هذا التفصيل كان قبل شهور ((هو صباح أخر، ولا شيء في الحي الجميل الذي أسكنه منذ قرابة سنة سوى صوت جارتي التي يعرفها الجميع، وتعرفهم، صوتها اليوم وهي تصرخ "محمد يا محمد المسيح قام" كفيل بأن يكون الصباح جميلاً، ولو سيكون هناك مشكلة حقيقية في تركيب الجملة حتى بقية العمر، على الأقل عند جارتي التي تسكن في الشقة التي بجانبي، والتي تضحك كلما كنت مشاركاً بالأعياد بعد صيحات جارتي التي لا تشيخ.
العطلة بعد العمل نكهة أخرى من الحياة الجميلة، حتى ولو انتهى الغاز الصغير ولم تنضج القهوة 100% الا أن ما يحدث في عطلة العمال، هو الوقت لكل شيء، حتى الصراخ في وجه الحياة، ووجه القبح كله.
هو صباح وأنت تتلمس خطاك القادمة بحذر، قدوم الأصدقاء لبيروت، رؤيتهم جميعاً ولو بأخر دولار في جيبك، بعض الصباحات قد تحمل لك الحب، قد تحمل لك ما تنتظره في قرارة نفسك، كأمك مثلاً وصوتها، أو صديقك الوحيد الذي أوشك على خلاصه الأخير من سجنٍ ليس له، وليس لك، لكنها "بيروت".
هي الصباحات بحلوها ومرها، بصوت الجيران عن بيض العيد، او اقتراب رمضان، بأغاني حسين الديك التي لن تهز بك شيئاً، او في ليل كان يتسلل لك به صوت "شادية" كخيط الضوء قبل صعود الحافلة أيام العمل، شادية التي تقول "جايز نحب وجايز لا"، شادية التي لا تشيخ ولو رحلت)).
هنا ذكرت شادية ولا أعرف لماذا كانت تمرّ في البال رغم ألوف النسيان، كلّ ما في الأمر أنّ شادية رحلت البارحة، واليوم سيكون نهاية الفصل الأجمل في حياتي، نهاية السكن في برج حمود، حيث لا مزيد من مواربة الحزن، والخوف الذي يردد في داخلي وصوت الراحلة "انا إلي ياما غنيت على الليالي
في الفرح موال وفي الجرح موال والصبر موال
اصبح على دي الحال غريب".
29/11/2017
____________________________
** محمد حاج حسين - كاتب سوري
* الصورة "برج حمود"