24 Aug
24Aug

كل النساء كما وصفهن نزار سيفاً إلاك يا فطمة، أنتِ الحرب التي جرّت قوافل ماعادوا يبصرون سوى السيوفَ والخنجر، مر العمر يا فطمة، كبر والدي وكبرت أنا، لكنَ عشرة أعوام كانت هي كواليس هذا الكبر المضلل، عشرة أعوام كانت لا تزال ريح البلاد مريحةً والقمر يغيبُ مرتاح الضمير لإنَ فرساً في المدينة يتولى المهمة، أه يا فرس، كانت عشرة أعوام آمنة خلف هذا العالم العجوز والمحني مثل عمر المئة الغضبان مثل ثورٍ قتلوا صديقه وما عاد يعرف كيف يركض خلف اللون الأحمر، كيف يحارب دماء خليله، كيف يبكي ويغضب في آنٍ معاً، عشرة أعوام كان عُمري حين سرقك الله لإن فرحاً  كان ينقصهُ، عشرة أعوام أذكر أن البلد كان وقتذاك عامرٌ، والشمس تبكي غيرةً فتصيرُ حارةً أكثر، "كيف تختبئ فطمة تحت ظل شجرةٍ؟ أنا التي أقطع بلاداً  وأسافر كل الكون متعبةٌ من حنين يشدني لبلادها، وأعودُ بلهفة كي أطبع القُبلات فيصير وجهها وردي".
فطمة صارت سمراء لإنَ خجلاً من قبلات الشمس يتجمع فيصير أحمر يبيت الليل وفي الصباح يتحول أسمر، لون فطمة ذنوب الشمس، يا أجمل الذنوب.

البارحة اتصلت بعمتي، قلت لها حدثيني عن جدتي أكثر، عن المرأة الصبور والفرس الجامح، عن الثورة التي ماراح ضحيتها أحداً سواي، توقعت أن تبكي عمتي فلا تكمل الحديث وأتوه أنا دون أن اعرف فطمة أكثر، أقول لكِ يا جدتي إني شعرت بصوتها يرقص، كان يرقص، كأن فرحاً جمع أحبالها الصوتية مثل عود وراح يعزف، صارت تغنيكي.
جائني صوتها فرح وولادة بنت جديدة إسمها فطمة، صدقيني يا جدتي كل ما جاء الحديث عنك أشعر بفطمة جديدة تولد، إنهم من شدة الوصف، يصيرون إلهاً فيخلقون ضحكات كثيرة  تسمى أنتِ، نسيت أن أخبرك أنكِ ضحكة أيضاً، تخيلي كم من فطمة صار في هذا العالم القبيح؟ يا ليت الكون يتجمع ويظل يضحك وتولد الف الف فطمة..  جدتك كانت خيالة، صمتُّ برهةً، لحظة.. كنت أعرف، ولله كنت أعرف أنك صديقة لفرس، تلك الصفات كلها، "من عاشر القوم أربعين يوم" أنتِ من علم الفرس  الصبر والشجاعة والفطنة،  تقول أيضاً أنك كنت تضحكين كثيراً، لو كنت رجلاً حين كنت صبيةً، لأستشهدت فوراً، لون السماء تحت جفنك والكحل يا الله، أيُ كُحلٍ محظوظ ذاك الذي بكيتي يوماً فصار لونه أسوداً شفاف مر بشفاهك أخذ إحمرار اللون وقبلها فصارَ قوس قزح، لا أدري من المذنب يا فطمة، الكحل أم الدمع أم أنتِ، أنتِ يا كل نساء الأرض في عينان وفمٍ واحدٍ، وأنف ممشوق كأنه مشى العمر كُله ولعب الصباح حتى صار هكذا رشيقاً ومُغري.

سأشتري فرساً وأسميه فطمة،  ورمحاً أيضاً وأسميه فطمة، سأزرع ورداً في الحديقة، ورداً كثيراً ستحبه الشمس لإن سنيناً عجاف مرت من دون فطمة، سأكتب نصوصاً كُثر سيهيم الجميع بعيون ذاك الفرس القوي، المتين، الحنون والرحمن الرحيم القدوس الذي يشبه الله.

أحبك لأنك أنا، لإنَ لا ملامح في وجهي منشقة عنكِ كما يقول أبي، لإن لون العيون ذاته مهما أختلف، لإن نبرة الصوت ذاتها رغم أختلاف العمر، لإنَ خيّالةً رقيقةً، قوية بهية  متينة عذبة وليّنة تدعى جدتي,

 أذكر شعرك الأسود، يبدو أن الليل لا يحب فطمة، لإن الجميع صار يُنسب اللون الأسود إليها.."أسود، حلو كتير كيف شعر فطمة" يغار الليل يا جدتي والصبح أيضاً لإن ضوئاً ما كان يسطع إلا بحضورك، إنتِ اللص الذي سرق شفاه الكون ورحل، مُذ رحلتي أنتِ وهذا الكون أبكم، أيتها الصبية التي تعيش في مخيلة شاعرٍ، كل الشعراء تخيلوكِ حين كتبوا، أقسم لكِ وإن كنتُ أكذب في بعض الأحيان إلا أنني هذه المرة أكاد أبكي من شدة الصدق، لا شعر يولد إلا منكِ، كل النصوص خلفائك المحظوظين، أنت الرب وكل الذي بعدك خلفاء أو رُسل، أنتِ رب كل الجمال حي عليكِ يا فطمة .

أتذكرك جيداً يا جدتي، كان خصرك حميم يديكِ، كانت يديكِ تسند ذاك العود الصلب، وتسيرين في أرجاء المنزل ترددين "يا نايمين الليل لا هناك في غمضة/ ويا سمكة البحر تمرق من زرد فضة" وأذوب أنا مثل قنديل، ويضحك العُمر في دهاليزي أتصوره سنيناً عجاف من الفرح، ثم يلوث رحيلك كل شيء.

  فطمة يا أول أفراح العشرة أعوام مني، يا حبيبة الصبح عدوة الليل بجمالكِ يا خطرة، ايتها السَناءٌ التي ما أحب الله غيرها وما زرع الليلك إلا على جفنها، وما كان الليلك وقتذاك إلاكِ يا فطمة،  يا أخر أثرٍ من الجنة ما رأينا مثله منذ عشرة أعوام، يا صفحةً بيضاء مثل غيم الصيف، يا تهور الشتاء، وصخب الحزن فيه، حيَّ حيَّ عليكِ يا فطمة.  
________________________________
** جمانة دحمان - كاتبة فلسطينية سورية.
* اللوحة من أعمال الفنان السوري "نذير نبعة".

تم عمل هذا الموقع بواسطة