أسرارٌ لإغواء ما بقي بك، أشخاصٌ أمراضٌ لجعل انتباهك أكثر حدّة، دروس من الحياة تتعلمها، لحظات مع من أحببت تنساك و تنساها، وصولك عظيم، بدايةٌ جليلة، أشباحك ميتة، يغفلك الحاضر الأليم عندما تسمو بالماضي، تحادث المستقبل من شبابيك رأيتها و لم تنسها، أنياب وحوشٍ غافية، ما أن صرخت التهمت عيناك.
اللون الآن أحمر، الأنوار تخبو في السماء، يرحل الصيف بتهذيب، يفقد العقل سيطرته، قيمٌ كأسماك الخيال تختنق طلباً لأوكسجين الحقائق. خلف زجاج أفكارك تشتهي امتياز السقوط الأثير، مرة واحدة ستكفيك آباداً قادمة، ستكفي القصّة الواهية نهاية مبكرة. أتريدها الآن؟ اطلبها و لكن لا تأخذها مضغة دون شيء يذكر، لا تأخذها كتل خواء من دم تبصقها الأرحام متباهية باكتمال الرفض لكل ما يأتي مبكراً.
/كي تنتظر يجب أن تنسى أنّك تنتظر/
فلتنتظر قليلا بعد، و لا تتباهى. انتظر حتى نمو الداخل في الجوف الذي لم يصر جوفاً بعد، لا تقتل الربيع قبل خروج الأزهار من رحم العدم، أصنع فرقاً ألمسهُ و يلمسني، استطيع قتله و يستطيع قتلي، أذكره دون أن يذكرني، و لكن
لا
تغويك الجريمةُ سافلةً
لا مكتملة.
لا تمسك القصة بيدين عاريتين كتراب، أهديتك صبري واسعاً علّك تنتظر بعثي من مكامن الخراب كعنقاء سامية، كعنقاء خرافيّة تستبد بمن تحبّ و لا تنام ليلاً ولا نهارات، وحيد كنفسي و سعيد دون غيري. لتتعلم الآن عن كل هذا. لتتعلم كيف تميّز بين الشهوة و السعادة، بين الحب و من تحب، بين الرقص و ديناميكية الحركة، بين الذاكرة و مشاعر الذاكرة و كي تحافظ على المسافات واضحة لا تُمس، لا تبحث عما أنكرك في الحب و الكراهية، ابتعد عن الأنظار لأيام، لشهور، لدهور ربما توقف عن طلب المزيد لا يلتهمك الشك ولا تقتلك أغنية.
/كي تنسى يجب أن تنتظر النسيان
و تنساه
و تنساني/
انتبه أكثر الآن: ساعاتٌ تمضي بلا رجعة، الوجوه أيضاً. أسرّة فارغة بانتظار العُشاق عائدين من شعر الملحمة، هياكل عرباتٍ و اسماء محطاتٍ تقف بينك و بينك، سفر بلا مسافرين، ورود على المقابر مُتفتحة، الظل يسافر وحيداً تذكرةٌ إلى الذاكرة لو سمحت، دون عودات ولا انتظار، تصرّ السكك متألمة، ينحرف القطار عن وجهته، لن نصل اليوم أيضاً.
من خلف النافذة جموع من كل الاتجاهات، جموع مقطوعة الأيدي تسعى لإمساك ما تستطيع إمساكه، جموع مقطوعة الأقدام تنتظر ما لا يأتي، جموع بأجساد كاملة تعانق الحصى أسفل العربات، بين سككٍ و ابتسامات، بين شمالٍ و شمال، بين الحياة و الموت و ما بينهم من فروق، بين صرخات تمضي ضجيجاً و صور تصير دخاناً يتبعون الرحلة و السفر و القصيدة.
الظل يسافر وحيداً، السماء توعد بمطر أبدي، كم يشتهيك الغرق يا ظمأي، جبالك لم تكن هناك لتمنع رياح الحرائق، عقلك ليس ملكك، لا كورس يحتجّ و ينشد، لا عاشق يهذي و يئن، لا راوي يفسر الوجود و الأفعال، العنقاء في داخلي تنادي على ما تركت فيك. لا شيء مميز هذا النهار، لا شيء يحث حقيقةً على الظهور في مشهد النهاية، بدأ الأمر بسؤال و أودى بك إلى غابة الكتمان، الآن عرضٌ قد انتهى، تصفيق لا ينقطع، الكراسي فارغة، العمال يهمون بتنظيف الدم عن الوجوه و الأحقاد، الخشب يمدنا برائحة المكان، تنغرس العيون في تأويلات لا حصر لها، الجدار الرابع يقذف بطوبه علينا. جُنّ الأرباب، لازاروس خرج لملاقاة الموتى، سيزيف لم يجد صخرته حتى الآن، دافني امرأة اربعينية تعيش في دمشق، صرخات متكررة، صمت لبرهة لا تنتهي، عيون تنتظر، جاءت المغنيات أخيراً و تردّد النشيد ثم انطلق.:
تمهل يا خوف عنّا
تمهل يا أخي فلا أبكيك
تمهل كي أصل بنا أينما أردت.
موت يلي القتل يلي الخراب يلي ولادة اللحظة.
عُدت بنفسي إلى بدايتي الهشّة، أدفع بالذباب عن جثث من رحل و أبقيته في داخلي، أغلّف الذاكرة بشمع المتاحف أحفظها في آبار الكلمة، عرشي صمتٌ و شعرٌ ناقص.
لم أرد الكلام يوماً، اللغة لا تكفي احتشاد المشاعر على عتبة الليل، الوقت لا يكفي لأعيد القصة إلى ما كانت عليه، أو لنجعل من البطولات بطولاتٍ بحق.
الموت يغيب لكنه لا يُغري، الولادة فكرة أكثر من كونها ولادة، و الحب خداع القدر.
في كل حين اغتراب جديد يأتي، يعرض عليّ ماذا سيفعل و ماذا يريد من جسدي، يقول لي: سأسرق منك الذاكرة هذه المرة، ابتسمُ و أخذ بيده إلى عتمتي، أُعريه من كل هدف، أتناول سكاكيني أثقب الهواء فيسيل الماء من حولنا و يعود بنا إلى قوارب النجاة في الماضي البعيد، لم أرد الوصول حقّاً، أردت فقط أن أردّ تحية الموت بموتي.
لم أزل هنا؟ جسدي ما يزال نفسه، الذاكرة نفسها، الحياة نفسها لم تتغير : العالم ينطلق إلى غدٍ معتم، يغطي البارحة بأخطاء اليوم، الاستمرار يدفع الأشياء إلى تغيير ماهيّتها، الوحيدون أكثر وحدةً، السعيدون أكثر سعادة، القصص مهملة في أقبية الذاكرة لا تمسها يد ولا تنعشها القبل.
الزمن يكشفنا، مسرحٌ للحقائق الماجنة، الحقول الخضراء كافية لكل بوح و كل بكاء، ماتت ملكات البجع و لم تعزف الفرقة ألحان النهاية، رتبتُ أحداث حياتي بأناقة لا تنتهي، تلوت قصصاً للفراغ لا حصر لها، ارتجيت الكون علّهُ يمتلك ذاكرةً تذكرني و تبقيني : حيّاً ميتاً في صمتي و اعترافاتي.
______________________________________
** مجد شلغين - كاتب سوري.
* اللوحة للفنان الفرنسي "بول غوغان" بعنوان "vision after the sermon"