28 Aug
28Aug

رصاص :
لطالما رأيت صديقي يصنع من أصابعه مسدساً، يصوب نحو القلب ويطلق رصاصة، لا يموت صديقي، دائماً يفشل، ليس الأمر مجرد خيال، الفكرة أن لا قلب له لتصله الرصاصة، ولو كانت وهماً.

...
ظننت أنّ لي قلب، جربت الحركة نفسها، أزحت اصبعيّ الفوهة قليلاً أطلت الرصاصة من بينهما كأنها حقيقة موتي القادم، عيناي في مكانهما، الرصاصة ترتجف أكثر من القلب، اخترقت جبهتي واستقرت في الدماغ، وما زلت أراها كل يوم تتحرك، وأفزع فأستفيق ومن حولي رصاص فارغ، أطلقه صديقي ولم يمت.

...
يقال بأنه يلزم لقتل الأخرين نظرة ثاقبة، وعدم الاكتراث لكلامهم، للمعان أعينهم، لرجفة الشفاه قبل تمتمة الوداع، يلزم لقتل الأخرين امساكهم من الحزن، التصويب نحو الجانب المعطوب، لكي يمجدك القتيل، لكي لا يكون هناك رصاصة فارغة بجانبك فقدت قيمتها، أفقدت القتيل متعة الخلاص ، صوّب نحو العقل، القلب لا تعطبه الأيام، تعطبه قلة الخيال.

...
أحدهم أخبرني أنه قتل نفسه مرتين، برصاصتين، أحدهما اختارها بيده والأخرى صُوبت نحو القلب بغتةً، لم يُفصل هذه الحوادث اكتفى بأن أشار لإصبعيّ الفوهة في يدي، ولعطب في يسار الصدر، عطب لم تحدثه الأيام، أحدثته كوابيسي ووحدة القاتل الذي كنته، قبل أن أُدرك أنّ لا قلب لي كصديقي، وأن رصاصة صديقي استقرت في دماغي، فقتلته وأبقتني فارغاً، فاقداً قيمتي، ارتجف أكثر من قلب.


الحزن :
صحوت قبل قليل على غير عادة، كان هناك صوت طفل صغير بجانبي، طفل حزن جميل هارب من أحلام من يشاركوني السكن، خمس دقائق وانا أراقبه يتحرك ويقفز، ثم ككل ما يهرب من أحلامنا، ينكمش، يصبح كرة صغيرة تجرفها الريح أو مكنسة صديقي حارس أحزاننا الذي لا ينام.

حقيقة لم أجرؤ يوماً على سؤاله أين يضع كل ما يكنسه، إلا أنني اليوم رأيت ما يصنع بكل ما يتجمع لديه، ورآني ولم يمانع بمراقبته، يكنس كومات حزننا، يجمعها في الزاوية، تأملت نظراته، صمته، قاطع صمتنا معاً، صوت حزن يحبو باحثاً عن أحزان هاربة دونه، ابتسمنا معاً كأننا نملك وقتاً كافياً لنراقب مصير كل هذا الحزن، او على الأقل لنا قدرة على كنسها كل يوم، كأن لا كنس يطالنا حين نتكور في فراشنا، او حين نهرب من أحلامنا في كل لحظة.

الليل :

ويمر ليل آخر، وحراس أبواب السعادة يعلقون القناديل في كل زاوية، إلا الزاوية التي تركز نظرها في عيني اللتان لن تناما قبل اخماد نار القنديل، اخماد ليل آخر.
حين كنت أعمل في عتالة الأشياء والهموم، كان كنس الأرض فعلا هروبيا من كل شيء، لربما وجدت حلم أحدهم متروكا أو دمعة ملتصقة على أرضية للمفارقين، فأوقد بها قنديلا للسعادة ولو لم يكن لي.
يمر ليل آخر، وحراس أبواب السعادة يلوحون من البعيد، بأن زاويتك لن يوقد فتيلها، ولو كنستك الأرض كدمعة، يوما ما.
وأوقن أن الليل لا ينتهي ولا الصباح، مجرد أوراق أخرى نكتبها ونحن في كامل خوفنا ويأسنا من أن الصباح أو قرينه المظلم سيحمل حلاً لما ينتظرنا في كل يوم.
أن أسمع أغانٍ تعيد نفسها، كما تفعلون عادةً أمر لا يُحدث فرقاً، الوحدة أمرٌ لا دواء له، كالخوف والحزن والموت، أمور لا تأتي صدفةً، ولا تنهيها أمور مرتبة.
الفقر لا يعيب، الغربة ليست أسوأ كوابيسنا، هناك دائماً ظلال، في كل مفترق طرق، في كل زاوية من زوايا البيوت، يقول صاحبي أننا أقوى وسننجو، وأعرفه يكذب ويعرف نفسه الا أن عزائنا الوحيد أن نستمر في الكذب لننجو قليلا من يأسنا.
قبل أيام حاولت الانتحار، جبنت، الا أنني طعنت ظلي ولم يمت، نزفت من عيني وأنا أراه يعتصر ألماً في كل مفترق وكل زاوية من زوايا البيوت.
هل ينتهي الحزن هكذا؟
دائماً أسأل نفسي نفس السؤال، وأرميه خلفي وأعود لأبحث عن ليل أخير أو صباح كوقفة أخيرة على كل هذا الحزن، كل هذا القهر، والظل المعتصر.

_____________________________________
** محمد حاج حسين - كاتب سوري.

* الصورة من فيلم (Dreams)

تم عمل هذا الموقع بواسطة