الغرفة أشد ظلمةً، الهواء أشد لهيباً، وصوت الماء يكاد يدفعني نحو الجنون.
في البدء كان الانتظار، وكان الانتظار سيلاً شديد الخفة يهوي على جلود أولئك الذين انتظروا عاماً بعد عامٍ دون أن يتحركوا، ودون أن يتحرك. تختلط الدماء بنقاء هذا السيل وينظرون، لا يسعهم إلا ابتلاع الألم، والابتسام، والصمت أملاً بالنهاية، ثم عرف المنتظرون موعدهم.
كانوا يطيقون الألم، وكانوا قد اعتادوا على الدم الممدد على الأرض؛ يصفّونه من ثقبٍ واحدٍ وحسب، ينتظرون المفاجأة، ولا يطيقون المفاجآت. كانوا يثملون، ويمارسون الرذائل، ويعيشون عشر خطاياً على ذمة الانتظار وحده، ثم كانوا ينظرون إلى ثقبهم المميز، ذاك الذي صنع منهم حالةً حقيقيةً في أعين الجميع، ويشتمون الحياة والله والحظ العاثر، ثم يعاودون رتابة الانتظار كما كانوا أبدا.
لم يكونوا سعيدين، لكنهم كانوا قد قرؤوا أنهم محكومون بالأمل اقتباساً عشوائياً على صورةٍ ما، واعتنقوا حكمهم بالأمل مأساةً شديدة الشعرية –هل كنت تعرف أنك إن وضعت ضفدعاً في قدرٍ، ثم غليت هذا القدر شيئاً فشيئاً، سيموت الضفدع مسلوقاً دون أن يحاول الهرب؟– ينتظرون النهاية، ويعرفون أنها كانت في الأفق دوماً، لكن عقيدتهم عنت بالضرورة اختفاء الحس بالزمن، وبالشجاعة، وبالجبن على أي حال. كان واجبهم الانتظار، ثم التأمل في الجرح اليتيم، ثم الاستمتاع بشتم كل ما يمكن شتمه غلاً إثر كل هذا الألم.
ثم عرف المنتظرون موعدهم، قيل لهم أن الأمل قادم، وأن الحياة جميلة، وأن السحر يكمن في لانهائية الاحتمالات؛ يمكنك أن تكون مزارعاً إن شئت، ويمكنك أن تكون مهندساً يزرع في حديقته شتلاً من الخضار التي يقطفها في حفلات العشاء الدافئة وسط كل ذاك البرد، ويمكنك أن تكون مهندساً لا يملك حديقةً لكنه شارك جاره العجوز واستثمرا في مزرعةٍ تشاركية. يمكنك أن تطلع على مفاهيم جديدة –كالتشاركية ذاتها– وأن ترى الحرية التي صرخت بها طويلاً قيد التطبيق أمام عينيك. يمكنك أن تمارسها، أو أن تكون حراً حد ألا تمارسها. يمكنك أن تدعم القضية بفعلٍ حقيقي. يمكنك أن تتعلم تعليماً حقيقياً، وإن لم يعجبك أي من هذه الأشياء، يمكنك دوماً أن تكون مزارعاً؛ هل تعرف أنهم يقدرون الخضار العضوية أكثر من تقديرهم للذهب؟ أنت لا تعرف تماماً، كل خضار الوطن عضويةٌ، وربما هنا تكمن المأساة.
أبتسم، أشكر كل المشجعين، أعدهم بوداع يليق بمكانتهم إن كانوا هنا، وبلقاءٍ يليق بمكانتهم إن كانوا هناك. أقسم، في سري، أنني لن أخلف الوعد. أحكم إقفال باب البيت؛ كل حرص الكون لا يكفي ليشعرني بالأمان بعد أن صار طريق الاغتراب سالكاً. أجلس في مكاني المعتاد أبداً، وأطيل التأمل علني أقرأ الماورائيات كما يقرؤها الشعراء تحت ألم هذي السيول. لا شيء. الرطوبة قشرت المزيد من الطلاء، مازال رماد السجائر مهيمناً على المنزل كأنني الضيف في حضرته لا كأنه هو الدخيل، والغرفة أشد ظلمةً، والهواء أشد لهيباً، وصوت الماء يكاد يدفعني نحو الجنون. أشعر أنني لا أريده أن يتوقف اليوم، ولا أريده أن يتوقف غداً، ولا يهمني إن تفتت عظامي، ولا يهمني إن بكيت ألف ألف مرةٍ، إن جثوت على الركب أستغفر كل ما يمكن استغفاره علّني أوقف النزيف.
قيل لي أنه يحق للمزارع الحقيقي أن يتهكم على أولئك الذين يسمون تقليم خمس شجرات ليمونٍ في حديقة البيت زراعةً، كنت مراهقاً مزعجاً يحاول التحذلق بفخرٍ في وجه كل جملةٍ أمام الجميع، وسألت يومها عن معنى المزارع الحقيقي، وما الذي يجعل من الآخرين زيفاً إن كان الليمون يعصر في النهاية. ضحك الجميع، ضحكت معهم، واعتقدت أن الإجهار بالشك هو الطريق الأصح، ففي النهاية ضحك الجميع. شككت بالحقيقة، وبالله، وبالغرض من الحياة، وبالغرض من الموت، وبالأب، وبالأخ الأكبر، وبنفسي، وبكل ما أمثل، وبكل ما يمثلني، وبكل ما أكره.أعتقد أنني آسف على كل ما سبق. أعتقد أنني أكثر تفاهةً من أن أشك بكل هذا القدر، ثم أشك باعتقادي مرةً أخرى.
الحقيقة المطلقة الوحيدة أمامي الآن هي أنني لا أريد أن يتوقف السيل. لن يهم إن توقف، لن يهم إن عاد الأمل ألف ألف مرةٍ بعد، سأقف في كل مرةٍ خائفاً أمامه، جباناً أصيلاً، وسأطلب منه الرحيل. أنا الحالة الجميلة، المحكوم بالألم والأمل دفعةً واحدة، ربما لا أستطيع أن أكون حراً دفعةً واحدة، وربما لا أستطيع أن أحمل عبئاً كعبء التعليم الحقيقي، وربما لا أستطيع أن أعرف الفعل الحقيقي من غير الحقيقي في سبيل القضية، وربما هو الخوف يدفعني إلى شفير الانهيار أمام كل هذه السعادة، وربما كانت كل خضار الوطن عضويةً حقاً، وربما هنا تكمن المأساة.
_________________________________
** حازم رعد - كاتب سوري.
* اللوحة "سيزيف" للفنان الايطالي تيتسيانو فيتشيليو