لقد طورت في الآونة الأخيرة هوساً خلال مشاهدتي الأفلام السينمائية، وهو هوس البحث عن أفلام تجري أحداثها في القطارات أو في محطاتها، إن كان البعض مستغرباً "لم القطارات على وجه التحديد؟"، تلك أمكنة ضيقة جدرانها المتقاربة تأوي غرباءً، ترتفع فيها إمكانية حصول أحداث مثيرة، Strangers on a Train (لألفريد هيتشكوك)، أو قصة حب مدمرة Leave Her to Heaven (جون شتال) أو قصة حب عذبة Before Sunrise (لريتشارد لينكليتر).
كيف لا وقد شهدنا ولادة السينما مع وصول قطار الأخوين لوميير إلى المحطة في الفيلم القصير The Train Arrival عام 1895، 55 ثانية كانت كافية لإثارة حالة من الهلع بين جمهور المشاهدين في الصالة، فلدى رؤيتهم القطار يقترب أكثر فأكثر هرعوا يركضون ذات اليمين وذات الشمال ظناً منهم أنه سيدهسم.
ثاني أبرز فيلم تقع أحداثه في محطة قطار كان عام 1903 تحت عنوان The Great Train Robbery (للمخرج إدوين بورتر)، 12 دقيقة تمر بسرعة مع شاشة مغبشة و لا صوت سوى صوت البروجيكتور الحثيث "تك تك تك".
تقوم عصابة من اللصوص بالسطو على محطة قطارات وسلب الركاب أمتعتهم، لعل مشهد النهاية كان الأبرز والأكثر استباقية، إذ يوحي لنا أن ألفريد هيتشكوك، قد قام بتقليده نوعاً ما في أفلامه، حيث تظهر إحدى الشخصيات مواجهة الكاميرا وتقوم بإطلاق ست رصاصات باتجاه العدسة، أتعجب لما لم يثِـر هذا المشهد الهلع مجدداً في صالة العرض..
محطتنا الثالثة مع فيلم القطارات الأشهر للسوبرمان (كما أحب أن أدعوه) (باستر كيتون) في فيلمه The General عام 1925 وهو الفيلم الذي يتبلور فيه عشق كيتون للهندسة وللمحركات، الفيلم عبارة عن مزيج من الكوميديا والمواقف الطريفة والخطيرة في الآن ذاته إذ يحاول جوني (كيتون) المهندس المهووس بقطاره إنقاذ القطار المسروق بحركات بهلوانية ممتعة وذلك لنيل محبة واحترام الفتاة التي يحب، كيتون ليس مجرد مهرج فهو يدرس خطوات الإخراج بدقة وترتيب للمشاهد ويتمتع بحس توقيت مدهش، إذ ينتقل من الفرح إلى الحزن إلى المغامرة بمحض ثوانٍ مستحوذاً على ضحكاتنا أو تأثرنا أو حماستنا، وطبعاً هو المجازف الأعظم في السينما حيث لا وجود لخدع بصرية أو لStunt men في أفلامه، فهو من يتولى زمام الأمور وقد عرض حياته للخطر عشرات المرات ليحظى بالكمال في جميع أفلامه.
(مارلين دريتريتش) والتي تلقب نفسها ب"شانغهاي ليلي" حسناء شقراء مع ماضي عشقٍ مبهم، راكبةٌ على متن 1932 Shanghai Express للمخرج (جوزيف فون شتيرنبرغ)، إذ تجري أحداث الفيلم خلال فترة التوتر السياسي المسيطر على الصين خلال الحرب الأهلية الصينية، نألف ركاب هذا القطار الذين سرعان ما يتحولون من شخصيات غريبة إلى أشخاص مألوفين لدينا، هنالك الكابتن هارفي والسيد المتمارض والسيد تشانغ وغيرهم، أجواء كلاسيكية تذكرنا بأجواء Casablanca الرومنسية، ومع حركة القطار البطيئة يصيبنا دوار خفيف، ولكن سرعان ما سيتوقف القطار لنستفيق من الخدر، إذ سنواجه بعض العراقيل، فهل تبرز (شانغهاي ليلي) بدور البطلة لتقوم بإنقاذ الموقف؟ وهي لا تبدو عليها سوى سمات الغنج بسجائرها التي تقوم بتدخينها طوال الفيلم وحركاتها المغرية وملابسها الفاخرة، أيمكن لامرأة كهذه أن تقوم بتضحية في سبيل من تحب؟ Shanghai Express قصة حب محفوفة بالمخاطر محطة تلو الأخرى .. طوال الطريق إلى شانغهاي.
أما الآن مع باكورة أفلام هيتشكوك البريطانية تحت عنوان The Lady Vanishes من إنتاج عام 1938 وهو أحد ثلاث أفلام لهيتشكوك تقع أبرز أحداثها على متن قطار، الاثنان الآخران هما Strangers on a Train 1951 و North by Northwest 1959 لا بد أن الشيطان الإنكليزي هشيتكوك كان مهووساً أيضاً بالقطارات. الفيلم عبارة عن حبكة من الغموض والإثارة الهيتشكوكية بنكهة أكثر تميزاً من باقي أفلامه التي اعتدناها كونه من أوائل الأفلام التي أكسبت هيتشكوك الشهرة بعد فيلمه The 39 Steps 1935.
تبدأ الأحداث في منطقة نائية في مكان ما في جبال الألب حيث يستقل نزلاء فندق مزدحم قطاراً متوجهاً نحو بريطانيا، تتعرف إحدى الراكبات وهي فتاة جميلة تدعى آيريس بامرأةٍ مسنة طيبة تدعى السيدة فروي، تأخذ آيريس غفوة في المقصورة بعد شعورها بالدوار إثر سقوط مزهرية على رأسها في المحطة، لتستيقظ وتجد صديقتها السيدة فروي قد اختفت دونما أثر، جميع من في المقصورة والقطار ينكرون أصلاً رؤيتهم لهذه السيدة، لا بد من وجود حبكة ثانوية تفسر الأحداث الغير منطقية للحبكة الأساسية، ما علاقة هذه السيدة المسنة بالتوتر السياسي التي تشهده بريطانيا قبل الحرب العالمية الثانية، ذورة السوبينس الهيتكشكوكي تكمن في هذه الرائعة التي تأخذ مجراها طبعاً على متن قطار.
أما فيلم كارول ريد غير المعروف Night Train to Munich 1940 محفوف بمخاطر أكبر من سالفه The Lady Vanishes، فخلال غزو المانيا النازية لتشكوسلوفاكيا تقوم عصابات الغيستابو باختطاف شخصية اعتبارية مرموقة مع ابنته لاقتيادهم إلى معسكرات الإعتقال في برلين، ولكن لن يتم ذلك بتلك السهولة في فيلم دراما ومغامرات يوجه نقداً لسياسة هتلر والنازية على غرار طريقة المخرج الألماني إرنست لوبيتش في فيلمه To Be or Not to BE وسوسبينس يشد الأعصاب كما في أفلام هيتشكوك مع مسحة من الرومانس وحتى الفكاهة لعلها تخفف من تأثير مشاهد معسكرات الاعتقال، إذ يخطف أنفاسنا ريكس هاريسون بوسامته وذكائه وشجعاته في محاولته إنقاذ العالم التشيكي آكسل وابنته آن ، والتي لعبت دورها مارغريت لوكوود وهي التي لعبت مسبقاً دور البطولة في The Lady Vanishes ، للأسف لم يسترعِ الفيلم الانتباه الذي يستحقه وذلك بسبب المنافسة الضارية لعدة أفلام أنتجت ذات العام و تركت أثراً لا يمحى في تاريخ السينما، أذكر منها فيلم تشارلي تشابلن The Great Dictator الذي أثار ضجة عالمية إثر نقده اللاذع لهيتلر والنازية و جون فورد The Grapes of Wrath، سنقبل إذاً بترشيح متواضع للفيلم للأوسكار عن فئة أفضل قصة أصلية.
أما الآن إلى شرق أوروبا مع المخرج البولندي يرزي كاواليروك في فيلمه Night Train 1959 حيث شاءت الأقدار أن تتشارك مارثا مقصورتها مع رجل يدعى يرزي - مع أن ذلك غير مسموح في قوانين القطار آنذاك- على متن قطار ليلي متوجه نحو ساحل البلطيق، أجواء ميلانكولية تغمرنا مع موسيقى جاز خلابة وجو معتم مسيطر على جميع ركاب القطار اللهم إلا مجموعة من الفتيات اللواتي اصطحبن آلاتهن الموسيقية ليقمن حفلة في إحدى المقصورات. مارثا غير سعيدة ومتوترة إثر لحاق عشيقها الطائش بها إلى القطار ومضايقته لها متى ما سنحت له الفرصة، فرأت مارثا شخص الرجل المتزن في زميلها في المقصورة، ما إن تبدأ الشخصيتان من التقرب من بعضهما البعض، وفقط عندما تبدأ مارثا منح ثقتها ليرزي، تعلن الشرطة أن قاتلاً طليقاً على متن القطار وتتوجه أصابع الاتهام إلى يرزي ويتم اقتياده إلى حجرة خاصة كأحد المشتبه بهم. ونحن حالنا كحال مارثا، نشعر بالصدمة، فنحن أيضاً بدأنا علاقة ألفة مع هاتين الشخصيتين. الفيلم دراما بوليسية تحاكي أسلوب المخضرم فريتز لانغ مصحوبة بكآبة وركود فترة ما بعد الحرب في بولندا.
أما في سياق الأفلام التي تناولت محرقة اليهود كموضوع لها أود الحديث عن فيلم Train of Life 1998 للمخرج رادو ميهالينيو وهو مخرج روماني من أصول يهودية، في دراما هزلية - ونادراً ما تختلط الهزلية مع موضوع مأساوي كالمحرقة - إلا أننا نتقبل الفكرة، فهو بعيد كل البعد عن أي مشاهد بشعة من تعذيب أو قتل أو إبادة على عكس جميع الأفلام التي تحدثت عن المحرقة، إذ لا وجود لأي مشهد يجسد التاريخ الدموي للنازية، وإنما فكرة بسيطة تتجسد في رغبة سكان قرية صغيرة في أورويا - المكان غير محدد - في صنع قطار بمعدّات متواضعة وذلك للفرار من النازيين والتوجه إلى فلسطين. خلال الفيلم تنعرف عن كثب على ثقافة وعادات الشعب اليهودي بطريقة طريفة وممتعة، وما إن يكتمل صنع القطار حتى يصعد الركاب على متنه وتبدأ سلسة الأحداث الفكاهية التي تواجههم على الطريق إلى فلسطين، وفطنة وذكاء اليهود في كيفية تملصهم من النازيين, أود استذكار مشهد ليلي حيث يصادف اليهود في طريقهم قبيلة من الغجر فيقضون الليل في أمسية موسيقية يعزفون فيها على آلاتهم الموسيقية سوية بمشهد اصطهاج موسيقي يلتصق بالذاكرة كمشهد منبثق من أحد أفلام أمير كوستوريتسا، قطار الحياة هو كوميديا ممتازة لم تنل ما تستحق من الثناء على عكس Life is Beautiful الذي لا أنكر عظمته إلا أنه قام باستجداء عواطفنا من خلال مشاهد القتل واستغلال وجود طفل وعائلة هاربين من النازية، ولا أحبذ أبداً تشبيه Train of Life بهذا الأخير ولو كان الاثنان من النوع الكوميتراجيدي.
فيلمنا التالي لا تقع أحداثه في قطار وإنما في محطة مهجورة، وهو The Station Agent العمل الأول للمخرج الأمريكي توم مكارثي، ليس في الفيلم أحداث بارزة ولا صعود ولا هبوط في الحبكة فهو عبارة عن Slice of Life هو عن الحياة، حياة شخص وحيد يدعى "فينبار" والذي لعب دوره الممثل المحبوب (بيتر دينكليج) الذي اشتهر بدور "تيرون لانيستر" في مسلسل Game of Thrones.
يقوم "فينبار" بالإنتقال للعيش في قرية صغيرة في نيو جيرسي و تحديداً في محطة قطار مهجورة، نعم إنه مهووس بالقطارات فينبار يعاني من الميلانكوليا إثر فقدانه لصديقه المقرب الوحيد منذ فترة وجيزة، يتعرف "فينبار" على بعض الأشخاص اللطفاء في القرية منهم بائع الهوت دوغ الثرثار "جو"، يشارك أصدقاء "فينبار" صديقهم الجديد هوايته الغريبة ألا وهي اللحاق بالقطارات المارة وتصويرها، فيلم ليس بمضمونه عن القطارات أو أحداث تقع في القطارات، إنما فقط كان القطار صلة الوصل أو حتى المنقذ الذي سينتشل "فينبار" من وحدته, هو فيلم عن الصداقة والوحدة ومعنى أن تكون محاطاً بالأصدقاء رغم اختلافك جسدياً واجتماعياً، أن تكون مقبولاً، كم هو إحساس مريح ومطمئن، هو فيلم للأشخاص الذين يحبون الهدوء والسكينة وكان لا بد من ذكره هنا، قد يجده البعض مملاً ولكن هؤلاء هم فقط الباحثين عن الأكشن والإثارة.
أفلام أخرى تأخذ مجراها في القطارات ومحطاتها والتي لم يتسن لي الكتابة عنها بعد، وهي:
Brief Encounter للسير ديفيد لين، Once Upon a Time in the West لماستر أفلام الويسترن سيرجيو ليوني، The Darjeeling Limited لويس أندرسون، و Planes, Trains and Automobiles لجون هدجز.
____________________________________________________
** سرار شليويط - كاتبة سورية
* الصور المرفقة من عدة مواقع.
*اللوحة للفنان (ديفيد توتويلر - David Tutwiler)