لم يكن معيباً يوماً أنّ الأيادي الخشنة لنساء سراقب، سره انتمائهن للأرض، للحر، ومناجل الحصاد،حولهن تلك الهالة من الاحترام،كأنّك تنظرلمحارباتٍ من أرضٍ لم يعرفها التاريخ.
يكفي أن تتلمس مجرى الدمع وحفره على الخد لتعرف أنّك بينهن، اللواتي غزلن ليل حروب ونكبات بألف حكايةعن بطولة نساءلايعرفها منهج يتغنى بكثيرات يشبهن نساء هذه الأرض ، نساء التعب والأحمال.
وككل نساء الأرض، بنات القرى جميلات برائحة حناء والكحل الحجري ، بالقماش المرصع بالدمع، المحاك على سناراتٍ من قصص ومشاعر، كل اللواتي مررن من هناك حملن كومة قصص، ونثرنها على العالم، كما ينثر أهل سراقب الحلويات في عيد مولد النبي، أوفوق السليقة*،حين توقد النار تحت الحلة لصنع مُباركة "سنان العجيان / العجيات".
وأمي وحدها تختصر كل هذا، كل مامرت في البال ولو طيفاً، جنت رائحة التربة ويباس السبل، حين الحصاد أو نهاية بردنا الجحيمي.
ولا أجمل من وجه أمي، رغم كل هذا الحزن، ما زالت تضع يدها فوق فمها وتضحك، تماماً كما أتخيلها كل يوم.
كانت حافظة للقرآن، تعلمت في بيت جدي مع أختها الوحيدة إصلاح الثياب وترقيع القندورة*، تعلمت الطبخ والحصاد، وحفظت عن الزهراوي (أبوها) القصص وبعض الشعر وكثير من الذِكر.
لم تتعلم لفظ القاف بشكلٍ صحيح، كما تلفظها قريتنا، الكثير من أهل القرية لم يتمكنوا من نطق الحرف الدال على لكنة سلطوية هذه الأيام، فحسدناهم، كانت أمي تحكي لي عن أيام العيش ببيتهم الفقير، السهرة تبدأ ويبدأ قص حكاية أبو زيد والزير وعنتر والزناتي خليفة، كان جدي أخر شخص قادر على ابهاري رأيته في حياتي،
رحل حين كنتُ أدرس لشهادة التاسع، رحل بعد وقوعه من بين يدي حين كنت أوصله للمنزل، جدي الذي هزمني بالشطرنج وغششت لأهزمه، وكشفني لأني غبي لا أملك فراسته، كان ينشد شعراً ويقرأ القرآن المحفوظ عن ظهر قلب.
رحلت جدتي من أمي قبل مولدي بثلاث أيام، حين قرروا تسميتي "عيد"، وكان خالي الوحيد، يحاول خلال تسعة شهور حملي اقناع أمي بإبقائي، وعدم التفريط بي، حقيقة عرفتها في اليوم الأخير لرؤيتي لأمي في دمشق، بعد اثنان وعشرين عام على هذه القصة.
أذكر عن أمي في طفولتي، غرفة صغيرة في الحوش في ساعات الصباح، تجلس أمام الزيت والغاز المشتعل، تصنع الفلافل والعجة لأبي في دكانه،
تقلي كل يوم ما يقارب أربعة كيلو من الفلافل، واثنين من العجة، خسرت كثيراً من صحتها أمامنا،
في صورة لعرسها كانت أكثر وزنا وأقل نحولاً، تنظف البيت كل يوم، ترتب مكان نومنا جميعاً، وأظن أنها اليوم تمد لنا الفراش لتواسي نفسها بغربتنا.
جاوزت السبعين من عمرها، لها سبع أبناء، وفي كل زاوية من الأرض التي نسكنها، دمعة لأمي تسكب كل يوم لتسقي براعم عمرها التي ما زلناها جميعاً.
________
*القندورة : الزي التقليدي لنساء سراقب.
______________________
** محمد حاج حسين - كاتب سوري
* اللوحة للفنان السوري نذير نبعة